الاثنين، 2 فبراير 2009

المثنوي العربي النوري _رشحات

المثنوي العربي النوري

الرسالة الثانية

رشحات

من بحر معرفة النبي صلى الله عليه وسلم 1

1 ترجم الاستاذ النورسي هذه "الرشحات" الى التركية وجعلها »الكلمة التاسعة عشرة« ونحن بدورنا نسّقناها في ضوئها.

بسم الله الرحمن الرحيم

تنبيه:

ان ما يعرّف لنا ربَّنا لايعد ولايحد، ولكن البراهين الكبيرة والحجج الكلية ثلاثة:

احداها: هذه الكائنات، وقد سمعتَ بعض آيات هذا الكتاب الكبير.

وثانيتها: الآية الكبرى من هذا الكتاب، وهي خاتم ديوان النبوة، ومفتاح الكنوزالخفية عليه الصلاة والسلام.

وثالثتها: مفسر كتاب العالم، وحجة الله على الانام، اي القرآن الحكيم.

فلابد ان نعرف هذا البرهان الثاني الناطق ثم نستمع اليه.. فنذكر من بحر معرفته رشحات:

الرشحة الاولى:

اعلم! ان ذلك البرهان الناطق له شخصية معنوية عظيمة.

فان قلت: ماهو؟ وما ماهيته؟ قيل لك:

هو الذي لعظمته المعنوية صار سطحُ الارض مسجدَه،

ومكةُ محرابَه، والمدينةُ منبرَه..

وهو امامُ جميع المؤمنين يأتمون به صافّين خلْفَهُ..

وخطيبُ جميع البشر يُبين لهم دساتير سعاداتهم..

ورئيسُ جميع الانبياء، يزكّيهم ويصدّقهم بجامعية دينه لأساسات اديانهم..

وسيدُ جميع الاولياء، يرشدهم ويربيّهم بشمس رسالته..

وقطبٌ في مركز دائرةِ حلقةِ ذكرٍ تركّبَتْ من الانبياء والاخيار والصديقين والابرار المتفقين على كلمته الناطقين بها..

وشجرةٌ نورانية عروقها الحيوية المتينة،

هي الانبياء باساساتهم السماوية،

واغصانُها الخضرة الطرية وثمراتُها اللطيفة النيرة،

هي الاولياء بمعارفهم الالهامية.

فما من دعوىً يدّعيها الاّ ويشهد لها جميعُ الانبياء مستندين بمعجزاتهم،

وجميعُ الاولياء مستندين بكراماتهم.

فكأن على كل دعوى من دعاويه خواتمَ جميع الكاملين؛ اذ بينما تراه قال:

(لا إله إلاّ الله) وادعى التوحيد فاذا نسمع من الماضي والمستقبل من الصفّين النورانيين - اي شموسِ البشر ونجومِه القاعدين في دائرة الذكر - عينَ تلك الكلمة، فيكررونها، ويتفقون عليها، مع اختلاف مسالكهم وتباين مشاربهم. فكأنهم يقولون بالاجماع: "صَدَقْتَ وبالحَق نَطقتَ".

ولاحدّ للوهم ان يَمُدّ يَده لردّ دعوىً تأيدتْ بشهاداتِ مَن لايحد من الشاهدين الذين تزكّيهم معجزاتُهم وكراماتُهم.

الرشحة الثانية:

اعلم! ان هذا البرهان النوراني الذي دل على التوحيد وأرشد البشر اليه، كما انه يتأيد بقوة ما في جناحَيه: نبوةً وولايةً من الاجماع والتواتر.. وكذا تصدّقه اشاراتُ الكتب السماوية من بشارات التوراة والانجيل والزبور وزُبُر الاولين.. وكذلك تصدّقه رموزات الارهاصات الكثيرة المشهودة.. وكذا تصدّقه بشارات الهواتف الشائعة المتعددة.. وكذا تصدّقه شهادات أهل الكهانة المنقولة بالتواتر.. وكذا تصدقه دلالات الف معجزات من امثال شق القمر ونبعان الماء من الاصابع كالكوثر، ومجئ الشجر بدعوته، ونزول المطر في آن دعائه، وشبع الكثير من طعامه القليل، وتكلم الضب والذئب والظبي والجمل والحجر الى الفٍ مما بيّنَه الرواةُ الثقاة والمحدّثون المحققون.. وكذا تصدّقه شريعته الجامعةُ لسعادات الدارين.

وقد سمعت ورأيت في الدروس السابقة شعاعاتٍ من شمس شريعته المفيضة للسعادات. فيكفيك إن لم يكن على عينك غين وفي قلبك رَين فلا نطوّل هنا.

الرشحة الثالثة:

اعلم! انه كما تصدّقه الدلائل الآفاقية، كذلك هو كالشمس يدل على ذاته بذاته، فتصدّقه الدلائل الأنفسية؛ اذ اجتماع اعالي جميع الاخلاق الحميدة في ذاته بالاتفاق.. وكذا جمعُ شخصيته المعنوية في وظيفته افاضل جميع السجايا الغالية

والخصائل النزيهة.. وكذا قوة ايمانه بشهادة قوة زهده وقوة تقواه وقوة عبوديته.. وكذا كمال وثوقه بشهادة سِيَره وكمال جدّيته وكمال متانته.. وكذا قوة امنيته في حركاته بشهادة قوة اطمئنانه، تصدّقه في دعوى تمسكه بالحق وسلوكه على الحقيقة، كما تصدّق الاوراقُ الخضرة والازهار النضرة والاثمار الطرية حياةَ شجرتها.

الرشحة الرابعة:

اعلم! ان للمحيط الزماني والمكاني تأثيراً عظيماً في محاكمات العقول!.. فان شئت فتعال، نخلع هذه الخيالات الزمانية والعصرية والمحيطية، ونتجرّد من هذا اللباس الملوّث؛ ثم نخوض في بحر الزمان السيال، ونَسبَحُ فيه الى ان نخرج الى عصر السعادات التي هي الجزيرة الخضراء فيما بين العصور والدهور. فلننظر الى جزيرة العرب التي هي المدينة الشهباء في تلك الجزيرة الزمانية. ولنلبس ما نسج لنا ذلك الزمانُ، وخاطه لنا ذلك المحيط، حتى نزور - ولو بالخيال - قطبَ مركزِ دائرةِ الرسالة، وهو على رأس وظيفته يعمل.

فافتح عينيك وانظر! فان اول ما يتظاهر لنا من هذه المملكة: شخصٌ خارقٌ، له حسنُ صورةٍ فائقة، في حُسن سيرة رائقة؛ فها هو آخذ بيده كتاباً مُعجزاً كريماً، وبلسانه خطاباً موجزاً حكيماً يبلّغ خطبة ازلية ويتلوها على جميع بني آدم، بل على جميع الجن والانس، بل على جميع الموجودات.

فيا للعجب!.. مايقول؟ نعم، يقول عن أمر ٍجسيم، ويبحث عن نبأٍ عظيم؛ إذ يشرح ويحل المعمّى العجيبة في سرّ خِلقة العالم، ويفتح ويكشف الطلسم المغلق في سر حكمة الكائنات، ويوضح ويبحث عن الاسئلة الثلاثة المعضلة التي اشغلت العقول واوقعتها في الحيرة؛ اذ هي الاسئلة التي يَسأل عنها كلُّ موجود، وهي: مَن أنت؟ ومِن اين؟ والى اين؟ ..

الرشحة الخامسة:

انظر! الى هذا الشخص النوراني كيف ينشر من الحقيقة ضياءً نَوّاراً،

ومن الحق نوراً مضيئاً! حتى صيّر ليل البشر نهاراً وشتاءه ربيعاًً،

فكأن الكائنات تبدل شكلُها فصار العالم ضاحكاً مسروراً بعدما كان عبوساً قمطريراً. إذ:

اذا لم نستضئ بنوره نرى في الكائنات مأتماً عمومياً، ونرى موجوداتها كالاجانب والاعداء، لايعرف بعضٌ بعضاً، بل يعاديه؛ ونرى جامداتها جنائز دهاشة، ونرى حيواناتها واناسيها ايتاماً باكين بضربات الزوال والفراق. ونرى الكائنات بحركاتها وتنوعاتها وتغيّراتها ونقوشها ملعبة التصادف منجرة الى العبثية مهملة لامعنى لها. ونرى الانسان قد صار بعَجزه المزعج وفقره المعجز وعقله الناقل لأحزان الماضي ومخاوف المستقبل الى رأس الانسان، ادنى واخسر من جميع الحيوانات. فهذه هي ماهية الكائنات عند مَن لم يدخل في دائرة نوره.

فانظر الآن بنوره، وبمرصاد دينه، وفي دائرة شريعته، الى الكائنات كيف تراها؟ انظر! قد تبدل شكلُ العالم، فتحول بيتُ المأتم العمومي مسجدَ الذكر والفكر ومجلس الجذبة والشكر.. وتحول الاعداء الاجانب من الموجودات احباباً واخواناً.. وتحول كلّ من جامداتها الميتة الصامتة حياً مؤنساً مأموراً مسخراً، ناطقاً بلسان حاله آيات خالقه، وتحول ذوو الحياة منها - الايتام الباكون المشتكون - ذاكرين في تسبيحاتهم، شاكرين لترخيصاتهم عن وظائفهم.. وتحولت حركات الكائنات وتنوعاتها وتغيراتها من العبثية والمهملية وملعبة التصادف الى صيرورتها مكتوبات ربانية وصحائف آيات تكوينية ومرايا اسماءٍ إلهية، حتى ترقى العالمُ وصار كتاب الحكمة الصمدانية.

وانظر الى الانسان كيف ترقى من حضيض الحيوانية العاجزة الفقيرة الذليلة الى اوج الخلافة، بقوة ضعفه، وقدرة عجزه، وسَوق فقره، وشوق فاقته، وشوكة عبوديته، وشعلة قلبه وحشمة ايمان عقله. ثم انظر كيف صارت اسبابُ سقوطه من العجز والفقر والعقل اسبابَ صعوده بسبب تنورها بنور هذا الشخص النوراني!

ثم انظر الى الماضي، ذلك المزار 1 الاكبر في ظلماته، كيف استضاء بشموس الانبياء وبنجوم الاولياء! والى الاستقبال تلك الليلة الليلاء في ظلماته، كيف تنور بضياء القرآن وتكشف عن بساتين الجنان!.

فعلى هذا؛ لو لم يوجَد هذا الشخص لسقطت الكائناتُ والانسانُ، وكل شئ الى درجة العدم، لاقيمة ولااهمية لها، فيلزم لمثل هذه الكائنات البديعة الجميلة من

1 المقبرة.

مثل هذا الشخص الخارق الفائق المعرِّف المحقق، فاذا لم يكن هذا فلا تكن الكائنات، اذ لامعنى لها بالنسبة الينا. فما اصدق ما قالَ مَنْ "قوله الحق وله الملك": (لولاكَ لَولاكَ لَما خَلقتُ الاَفلاكَ)..1

الرشحة السادسة:

فان قلت: مَن هذا الشخص الذي نراه قد صار شمساً للكون، كاشفاً بدينه عن كمالات الكائنات، وما يقول؟

قيل لك: انظر واستمع ما يقول! ها هو يخبر عن سعادة ابدية ويبشّر بها، ويكشف عن رحمة بلا نهاية، ويعلنها ويدعو الناس اليها. وهو دلاّلُ محاسن سلطنة الربوبية ونظّارُها، وكشافُ مخفيات كنوز الاسماء الالهية ومعرِّفها.

فانظر اليه من جهة وظيفته؛ تَرَه برهانَ الحق وسراجَ الحقيقة وشمس الهداية ووسيلة السعادة..

ثم انظر اليه من جهة شخصيته تره مثال المحبةِ الرحمانية، وتمثال الرحمة الربانية، وشرفَ الحقيقة الانسانية، وأنورَ أزهرِ ثمراتِ شجرة الخلقة.

ثم انظر كيف احاط نورُ دينه بالشرق والغرب في سرعة البرق الشارق، وقد قَبِل بإذعان القلب قريبٌ من نصف الارض ومن خُمس بني آدم هديةَ هدايته بحيث تُفدي لها ارواحها.

فهل يمكن للنفس والشيطان ان يناقشا بدون مغالطة في مدّعيات مثل هذا الشخص، لاسيما في دعوىً هي اساس كل مدعياته وهو "لاإله إلاّ الله" بجميع مراتبه؟ ..

الرشحة السابعة:

فان شئت ان تعرف ان ما يحرّكه، انما هو قوّة قدسية. فانظر الى إجراآته في هذه الجزيرة الواسعة! ألا ترى هذه الاقوام الوحشية في هذه الصحراء العجيبة، المتعصبين

1 اي: ان هذا حديث قدسي. وقد تكلم علماء محققون حول هذا الحديث ، فمنهم من اقره، ومنهم من ضعفه ومنهم من انكره ولعلّ قول على القاري في شرح الشفا (1 / 6) يعدّ خلاصة جيدة، اذ يقول: "انه صحيح معنىً ولو ضعف مبنى " وايده ابن تيمية من حيث صحة معناه في الفتاوى ( 11 / 96 - 98)

لعاداتهم، المعاندين في عصبيتهم وخصامهم، القاسية قلوبُهم بدرجة يدفن احدُهم بنتَه حيةً بلا تأثّر! كيف رفع هذا الشخص جميع اخلاقهم السيئة والوحشية، وقلعَها في زمان قليل! وجهّزهم باخلاق حسنة عالية، فصيّرهم معلمي العالم الانساني واساتيذ 1 الامم المتمدنة. فانظر ليست سلطنته على الظاهر فقط، بقوة الخوف كسائر الملوك، بل ها هو يفتح القلوب والعقول، ويسخِّر الارواح والنفوس حتى صار محبوبَ القلوب ومعلم العقول ومربي النفوس وسلطان الارواح.

الرشحة الثامنة:

من المعلوم ان رفع عادةٍ صغيرة (كالتتون) 1 مثلاً، من طائفة صغيرة بالكلية قد يَعسَرُ على حاكم عظيم بهمّة عظيمة، مع أنّا نرى هذا الذات ها هو قد رفع بالكلية؛ عاداتٍ عظيمة كثيرة، من اقوام عظيمة متعصبين لعاداتهم، معاندين في حسياتهم، بقوة جزئية، وهمةٍ قليلة وفي زمان قصير، وغَرسَ بدلها برسوخ تام في سجيتهم عادات عالية، وخصائل غالية. فانظر الى "عمر" رضى الله عنه قبل الاهتداء وبعده، تَرَه نواةً قد صار شجرةً باسقة. وهكذا يتراءى لنا من خوارق اجراآته الاساسية الوف ما رأينا، فمن لم يَرَ هذا العصر نُدخل في عينه هذه الجزيرة!. فليجرّب نفسه فيها. فليأخذوا مائة من فلاسفتهم وليذهبوا اليها وليعملوا مائة سنة هل يتيسر لهم ان يفعلوا بالنسبة الى هذا الزمان جزءٌ من مائة جزءٍ مما فعل سيدُنا في سنةٍ بالنسبة الى ذلك الزمان؟! .

الرشحة التاسعة:

اعلم! ان كنت عارفاً بسجية البشر، انه لايتيسر للعاقل ان يدّعي في دعوى فيها مناظرة كذباً يخجل بظهوره، وان يقوله بلا حجاب وبلا مبالاة وبلا تأثر يشير الى حيلته، وبلا تصنّع وتهيّج يُوميان الى كذبه، في انظار خصومه النقادة، ولو كان شخصاً صغيراً، ولو في وظيفة صغيرة، ولو بحيثية حقيرة، ولو في جماعة صغيرة، ولو في مسألة حقيرة. فكيف يمكن تداخل الحيلة ودخول الخلاف في مدّعيات مثل هذا الشخص الذي هو موظف عظيم، في وظيفة عظيمة، بحيثية عظيمة، مع انه

1 جمع استاذ

2 التتون : التبغ والتدخين.

يحتاج لأمنية عظيمة، وفي جماعة عظيمة، وفي مقابلة خصومة عظيمة، وفي مسألة عظيمة، وفي دعوى عظيمة؟ وها هو يقول ما يقول بلا مبالاة بمعترض، وبلا تردّد وبلا حجاب وبلا تخوف وبلا تأثر، وبصفوةٍ صميمية، وبجذبة خالصة، وبطرزٍ يحرِّك اعصاب خصومه بتزييف عقولهم وتحقير نفوسهم وكسر عزّتِهم، باسلوب شديد علوي. فهل يمكن تداخل الحيلة في مثل هذه الدعوى من مثل هذا الشخص في مثل هذه الحالة المذكورة؟ كلاَّ (انْ هوَ إلاّ وَحيٌ يُوحى) 1.

نعم، ان الحقَّ اغنى من ان يُدلِّس، ونظر الحقيقة اعلى من ان يُدلَّس عليه! ..

نعم، ان مسلكه الحق مستغنٍ عن التدليس، ونظرهُ النفّاذ منزّهٌ من ان يلتبس عليه الخيال بالحقيقة..

الرشحة العاشرة:

انظر واستمع ما يقول! ها هو يبحث عن حقائق مدهشة عظيمة،

ويُنذر البشر ويبحث عن مسائل جاذبة للقلوب، لازمة جالبة للعقول الى الدقة 2 فيبشّر البشر. ومن المعلوم ان شوقَ كشفِ حقائق الاشياء، قد ساق الكثيرين من اهل (المَرَق) 3 الى فداء الارواح. ألا ترى انه لو قيل لك: ان أفديتَ نصفَ عمركَ او نصف مالك، لنزل من القمر او المشتري شخصٌ يخبرك بغرائب احوالهما ويخبرك بحقيقة استقبالك، اظنك ترضى بالفداء؟ فياللعجب! ترضى لدفع (مَرَقِك) بترك نصف العمر والمال، ولاتهتم بما يقول هذا ويصدِّقه اجماعُ اهل الشهود وتواتر أهل الاختصاص من الانبياء والصديقين والاولياء والمحققين؛ فيبحث عن شؤون سلطانٍ: ليس القمرُ في مملكته الاّ كذبابٍ يطير حول فراشٍ، يطير ذلك الفراشُ حول سِراج ٍمن القناديل التي اسرجها في منزلٍ أعدّه لضيوفه المسافرين من الوفِ منازله! .. وكذا يخبر عن عالمٍ هو محل الخوارق والعجائب، وعن انقلاب عجيب، فرضاً لو انفلقت الارضُ وتطايرت جبالُها كالسحاب ما ساوتْ عُشر معشار عشير غرائب ذلك الانقلاب.

1 النجم : 4

2 اي الملاحظة والتدبر وإنعام النظر.

3 اي الولع واللهفة والرغبة الملحة والاهتمام . ويستعملها الاستاذ في اماكن متفرقة ويعقبها بمعناها العربي.

فان شئت فاستمع من لسانه امثال: (اذا الشَّمسُ كُوِّرَتْ) و

(اذا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) و (اذا زُلْزِلَتِ الارضُ زِلْزالَهَا) و (القَارِعَةُ) ..

وكذا يخبر بتحقيقٍ عن استقبال؛ٍ ليس الاستقبال الدنيوي بالنسبة اليه الا كقطرةِ سرابٍ بلا طائلٍ بالنسبة الى بحر بلا ساحل.. وكذا يبشّر عن شهودٍ بسعادةٍ؛ ليست السعادة الدنيوية بالنسبة اليها الا كبرقٍ زائل بالنسبة الى شمس سرمدية.

نعم، تحت حجاب هذه الكائنات - ذات العجائب - عجائبٌ، تنتظرنا وتنظر الينا. ولابد لاخبار تلك العجائب والخوارق شخصٌ عجيب خارق يشاهِد ثم يشهَد، ويبصُر ثم يُخبر. نعم، نشاهد من شؤونه واطواره انه يشاهد ثم يشهَد فينذر ويبشّر. وكذا يخبر عن مرضيات رب العالمين ومطالبه منّا وهكذا.. من عظائم مسائل لامفرّ منها، وعجائب حقائق لامنجأ منها، ولا سعادة بدونها.

فيا حسرةً على الغافلين! وياخسارةً على الضالين! وياعجباً من بلاهة اكثر الناس! كيف تَعامَوا عن الحق وتصامّوا عن هذه الحقيقة! لا يهتمون بمثل هذا الذات في عجائبه، مع ان من شأن مثله ان تُفدى له الارواحُ ويُسرع اليه بترك الدنيا وما فيها.

الرشحة الحادية عشرة:

اعلم ! ان هذا الشخص، المشهود لنا بشخصيته المعنوية، المشهور في العالم بشؤونه العلوية؛ كما انه برهانٌ ناطقٌ صادقٌ على الوحدانية، ودليلٌ حقٌّ بدرجة حقانية التوحيد.. كذلك هو برهان قاطع ودليل ساطع على السعادة الابدية؛ بل كما انه بدعوته وبهدايته سببُ حصول السعادة الابدية ووسيلة وصولها.. كذلك هو بدعائه وعبوديته سببُ وجود تلك السعادة ووسيلة ايجادها.

فان شئت فانظر اليه وهو في الصلاة الكبرى، التي بعظمة وُسعَتها صيّرت هذه الجزيرة، بل الارض، مصلين بتلك الصلاة الكبرى.. ثم انظر انه يصلي تلك الصلاة بهذه الجماعة العظمى، بدرجةٍ كأنه هو امامٌ في محراب عصره واصطفّ خلفَه، مقتدين به جميعُ افاضل بني آدم، من آدم الى هذا العصر الى آخر الدنيا، في صفوف الاعصار مؤتَمّين به ومؤمنّين على دعائه.. ثم استمع ما يفعل في تلك الصلاة بتلك الجماعة. فها هو يدعو لحاجةٍ شديدةٍ عظيمةٍ عامةٍ بحيث يشترك معه في دعائه الارضُ، بل السماء، بل كل الموجودات، فيقولون بألسنة الاحوال: نعم يا ربَّنا تقبل دعاءه، فنحن ايضاً نطلبه، بل مع جميع ما تجلى علينا من اسمائك، نطلب حصول ما يطلب هو.. ثم انظر الى طوره في طرز تضرعاته كيف يتضرّع بافتقارٍ عظيم ٍفي اشتياق شديد وبحزن عميق في محبوبية حزينة! بحيث يهيّج بكاء الكائنات فيبكيها فيُشركُها في دعائه.. ثم انظر لأيّ مقصدٍ وغاية يتضرع؛ ها هو يدعو لمقصدٍ لولا حصول ذاك المقصد لسقط الانسانُ بل العالم بل كل المخلوقات الى اسفل سافلين لاقيمة لها ولا معنى. وبمطلوبه تترقى الموجوداتُ الى مقامات كمالاتها.. ثم انظر كيف يتضرع باستمدادٍ مديد، في غياث شديد، في استرحام بتودد حزين، بحيث يُسمع العرشَ والسموات، ويهيّج وجدَها، حتى كأن يقول العرش والسموات: آمين اللهم آمين.. ثم انظر ممّن يطلب مسؤولَه؟ نعم، يطلب من القدير السميع الكريم ومن العليم البصير الرحيم، الذي يسمع اخفى دعاءٍ من اخفى حيوانٍ في اخفى حاجة، إذ يجيبه بقضاء حاجته بالمشاهدة، وكذا يبصر ادنى املٍ في ادنى ذي حياة في ادنى غاية؛ إذ يوصله اليها من حيث لايحتسب بالمشاهدة، ويُكرم ويَرحم بصورة حكيمة، وبطرز منتظم؛ لايبقى ريب في ان هذه التربية والتدبير من سميع عليم ومن بصير حكيم.

الرشحة الثانية عشرة:

فياللعجب! .. مايطلب هذا الذي قام على الارض وجمَعَ خلفَه جميع الانبياء، افاضل بني آدم، ورفع يديه متوجهاً الى العرش الاعظم ويدعو دعاءً يُؤمِّن عليه الثقلان، ويُعلَم من شؤونه انه شرف نوع الانسان، وفريد الكون والزمان،

وفخر هذه الكائنات في كل آن؛ ويستشفع بجميع الاسماء القدسية الالهية المتجلية في مرايا الموجودات، بل تدعو وتطلب تلك الاسماء عين ما يطلب هو . فاستمع! ها هو يطلب البقاء واللقاء والجنة والرضاء. فلو لم يوجَد مالا يُعد من الاسباب الموجبة لاعطاء السعادة الابدية من الرحمة والعناية والحكمة والعدالة المشهودات - المتوقف كونها رحمة وعناية وحكمة وعدالة - على وجود الاخرة، وكذا جميع الاسماء القدسية، اسباباً مقتضية لها؛ لكفى دعاءُ هذا الشخص النوراني لان يبني ربُّهُ له ولأبناء جنسه الجنة، كما يُنشئ لنا في كل ربيع جناناً مزينة بمعجزات مصنوعاته.

فكما صارت رسالته سبباً لفتح هذه الدار الدنيا للامتحان والعبودية، كذلك صار دعاؤه في عبوديته سبباً لفتح دار الآخرة للمكافأة والمجازاة.

فهل يمكن ان يتداخل في هذا الانتظام الفائق، وفي هذه الرحمة الواسعة، وفي هذه الصنعة الحسنة بلاقصور، وفي هذا الجمال بلا قبح، بدرجة انطق امثال الغزالي بـ"ليس في الامكان ابدع مما كان".. وان تتغير هذه الحقائق بقبحٍ خشين، وبظلم مُوحش، وبتشوش عظيم؛ اذ سماع ادنى صوت في ادنى خلق في ادنى حاجة وقبولها باهمية تامة، مع عدم سماع ارفَع صوتٍ ودعاءٍ في اشد حاجة، وعدم قبول احسن مسؤول، في اجمل امل ورجاء؛ قبحٌ ليس مثله قبح، وقصورٌ لايساويه قصور، حاشا ثم حاشا وكلاّ.. لايقبل مثلُ هذا الجمال المشهود بلا قصور مثل هذا القبح المحض، والاّ لانقلبت الحقائقُ بانقلاب الحُسن الذاتي قبحاً ذاتياً.

الرشحة الثالثة عشرة:

يارفيقي في هذه السياحة العجيبة، ألا يكفيك مارأيت؟ فان اردت الاحاطة فلايمكن، بل لو بقينا في هذه الجزيرة مائة سنة ما احطنا ولامَلَلْنا من النظر بجزءٍ واحد من مائة جزء من عجائب وظائفه، وغرائب اجراآته.. فلنرجع قهقرياً، ولننظر عصراً عصراً، كيف اخضرّت تلك العصور واستفادت من فيض هذا العصر؟

نعم، نرى كلَّ عصرٍ نمرُّ عليه قد انفتحت ازاهيرهُ بشمس عصر السعادة واثمَر كلُ عصرٍ من امثال ابي حنيفة 1، والشافعي 2، وابي يزيد البسطامي 3، والجنيد

1 ابو حنيفة (80 - 150هـ) النعمان بن ثابت، امام الحنفية، الفقيه المجتهد المحقق، احد الائمة الاربعة عند اهل السنة، ولد ونشأ بالكوفة، وتوفي ببغداد، وأخباره كثيرة، وله تصانيف منها: "مسند " في الحديث، جمعه تلاميذه و "الفقه الاكبر " و "المخارج " في الفقه. (الاعلام 8/36 الزركلي)

2 الشافعي (150 - 204هـ)(767 - 820م) احد الائمة الاربعة عند اهل السنة، ولد في غزة بفلسطين وحمل منها الى مكة وهو ابن سنتين، وزار بغداد مرتين، وقصد مصر سنة 199هـ فتوفي بها، وقبره معروف في القاهرة، وكان من احذق قريش بالرمي برع في ذلك اولاً كما برع في الشعر واللغة وايام العرب ثم اقبل على الفقه والحديث وافتى وهو ابن عشرين سنة، وله تصانيف كثيرة اشهرها كتاب "الام " في الفقه و "احكام القرآن ". (الاعلام 6/26 الزركلي).

3 ابو يزيد البسطامي (188 - 261هـ) طيفور بن عيسى البسطامي، ابو يزيد زاهد مشهور، اصله من بسطام ووفاته فيها (بلدة بين خراسان والعراق). (وفيات الاعيان 1/240 ابن خلكان والاعلام 3/235 للزركلي وميزان الاعتدال 1/481 للذهبي حلية الاولياء 10/33 ابو نعيم).

البغدادي 1، والشيخ عبدالقادر الكيلاني 2 والامام الغزالي، ومحي الدين بن عربي 3، وابي الحسن الشاذلي 4، والشاه النقشبند 5، والامام الرّباني ونظائرهم الوف ثمراتٍ منورات من فيض هداية ذلك الشخص النوراني.

فلنؤخر تفصيلات مشهوداتنا في رجوعنا الى وقت آخر، ونصلي ونسلم على هذا الذات النوراني، ذي المعجزات، اعني سيدنا محمداً عليه الصلاة والسلام:

اللهم صلّ وسلّم على هذا الذات النوراني الذي اُنزل عليه القرآن الحكيم من الرحمن الرحيم من العرش العظيم. اعني سيدنا محمداً الفُ الفِ صلاة وسلام بعدد حسنات امته.. على مَن بَشَّر برسالته التوراة والانجيل والزبور والزبر، وبشَّر بنبوته الأرهاصات وهواتف الجن واولياء الإنس وكواهنُ البشر وانشقَّ باشارته القمر سيّدنا ومولانا محمد الف الف صلاة وسلام بعدد انفاس امته.. على مَن جاءت لدعوته الشجرُ، ونزل سرعة بدعائه المطرُ، واظلته الغمامة من الحرّ، وشبعَ من صاع ٍمن طعامه مئات من البشر، ونبع الماء من بين اصابعه كالكوثر، وانطقَ الله له الضَّّبّ، والظبي، والذئب، والجذع، والذراع، والجمل، والجبل، والحجر، والمدر، والشجر، صاحب المعراج ومازاغ البصر؛ سيدنا وشفيعنا محمد الف الف صلاة وسلام بعدد كل الحروف المتشكلة في الكلمات المتمثلة باذن الرحمن في مرايا تموجات الهواء عند قراءة كل كلمة من القرآن من كل قارئٍ من اول النزول الى آخر الزمان واغفرلنا وارحمنا يا إلهنا بكل صلاة منها. آمين.. آمين.. آمين.

1 هو جنيد بن محمد (ابو القاسم الزجاج القواريرى)(ت 297هـ/1910): صوفي وزاهد، سيد الطائفة. ولد وتوفي ببغداد تلقى العلوم الفقهية عن سفيان الثوري والعلوم الصوفية عن خاله السري السقطي.

2 الكيلاني(عبد القادر): هو ابن ابي صالح ابو محمد الجيلي. ولد بجيلان سنة 470 هـ، ودخل بغداد فسمع الحديث وتفقه على ابي سعيد المخرمي الحنبلي، وهو احد الاقطاب المعروفين لدى اهل السنة والجماعة، ومجدد عظيم استقام على يديه كثير من المسلمين واسلم كثير من اليهود والنصارى. من مصنفاته: كتاب الغنية وفتوح الغيب والفتح الرباني، توفي ببغداد سنة 561 هـ .

3 محي الدين بن عربي: هو محمد بن علي بن محمد ابن عربي ابو عبد الله الطائى الاندلسي المعروف بابن العربي الشهير بالشيخ الاكبر، ولد بالاندلس سنة 560هـ وتوفي بدمشق سنة 638هـ، له من التصانيف (فصوص الحكم) و(الفتوحات المكية). (البداية والنهاية لابن كثير 13/156 كشف الظنون 1238، 1261 هدية العارفين 2/114 الاعلام 6/281 ميزان الاعتدال 3/108 جامع كرامات الاولياء 1/118 الطبقات الكبرى 1/188).

4 الشاذلي: (591 - 656 هـ) هو علي بن عبدالله بن عبد الجبار الشاذلي، والشاذلة قرية من افريقيا، الضرير الزاهد نزيل الاسكندرية وشيخ الطائفة الشاذلية، صاحب الاوراد المسماة "حزب الشاذلي ". (الطبقات الكبرى 2/4 الاعلام 4/305 نور الابصار 234 جامع كرامات الاولياء 2/341).

5 النقشبند(الشاه): هو محمد بهاء الدين مؤسس الطريقة النقشبندية ولد في قرية قصر العارفان، قرب بخارى، ودرس في سمرقند، تزوج في الثامنة عشرة من عمره، انتسب الى شيوخ كثيرين وعاد اخيراً الى بخارى ولم يغادرها حتى وفاته، وانشأ فيها طريقته ونشرها، وتوفي في 3 ربيع الأول 791هـ 1389م عن (73) سنة من العمر. من مصنفاته: رسالة الواردات والاوراد البهائية، حياتنامة، تنبيه الغافلين.

اعلم! 1 ان دلائل النبوة الاحمدية لاتعد ولاتحصى، وقد ذكرنا قسماً منها في [الكلمة التاسعة عشرة والمكتوب التاسع عشر] فمع شهادة "معجزاته" البالغة الى الف، ومع شهادة "القرآن" البالغ وجوه اعجازه الى اربعين، السابق تفصيلها في (الكلمة الخامسة والعشرين) على رسالة محمّد عليه الصلاة والسلام..

كذلك تشهد هذه "الكائناتُ" بآياتها على نبوته؛ اذ كما ان في هذه المصنوعات المبثوثة في الكائنات آياتٍ لاتُحد، تشهد على وحدانية الذات الاحدية، كذلك فيها بيّنات لاتعد، تشهد على رسالة الذات الاحمدية عليه الصلاة والسلام:

منها كمال حسن الصنعة؛ اذ كمال حُسن الصنعة في هذه المصنوعات، يدل على الرسالة الاحمدية دلالة قطعية؛ لان جمال هذه المصنوعات المزينات يُظهر للناظر حُسنَ صنعةٍ وزينةٍ بالمشاهدة، وان حسن الصنعة وزينة الصورة يدلان بالبداهة على ان في صانعها ارادةَ تحسينٍ وطلبَ تزيينٍ في غاية القوة. وان ارادة التحسين وطلبَ التزيين يدلان بالضرورة على ان في صانعها محبةً علويةً لصنعته، ورغبةً قدسية لاظهار كمالاتِ صنعته. وان تلك المحبة والرغبة تدلان بالقطع على ان الانسان الذي هو اكمل المصنوعات وابدعها واجمل المخلوقات واجمعها، هو المظهرُ الجامعُ والمدارُ البارعُ لتلك المحبة والرغبة، وهو الذي تتمركزان فيه. وان الانسان لكونه اجمع وابدع المصنوعات فهو الثمرة الشعورية لشجرة الخلقة. أي هو لها كثمرةٍ ذات شعور. فلكونه كالثمرة، فهو ما بين اجزاء الكائنات جزء أجمع وأبعد من جميع الاجزاء. فلكونه اجمعَ وابعدَ وذا شعور، فله نظرٌ عام وشعور كلي. فلكون نظره عاماً يرى مجموع شجرة الخلقة، ولكون شعوره كلياً يعرف مقاصد الصانع، فهو المخاطَب

1 هذا البحث القيم في دلالة الكائنات بحث مستقل عن -الرشحات

- ترجمه الاستاذ النورسى الى التركية وجعله النقطة الثالثة من الكلمة الثامنة عشرة.

الخاص للصانع. فلكون عموم النظر وكليةُ الشعور، سبباً لخصوصية الخطاب، فالفرد الذي يَصرِف كلَّ نظرهِ العام وعموم شعوره الكلي الى التعبد للصانع، والتحبب اليه، والمحبة له، ويوجّه تمام شعوره ودقة نظره الى استحسان صنعة الصانع وتقديرها وتشهيرها، ويستعمل جميع نظره وشعوره ومجموع قوته وهمّته الى شكر نعمةِ ذلك الصانع الذي يطلب الشكر في مقابلة إنعامه، والى دعوة الناس كافةً الى التعبد والاستحسان والشكر، فبالبداهة يكون ذلك الفرد الفريد هو المخاطب المقرَّب والحبيب المحبَّب..

فيا ايها الناس! هل يمكن عندكم ان لا يكون محمّد عليه الصلاة والسلام ذلك الفرد الفريد؟ وهل يستطيع تاريخكم ان يظهر فرداً آخر أليقَ بهذا المقام من محمّد عليه الصلاة والسلام؟ فيامَن له بصر بلا رَمَد، وبصيرة بلا عمى!

انظر الى عالم الانسان في هذه الكائنات، حتى تشاهد بالعيان دائرتين متقابلتين، ولوحتين متناظرتين:

فاما احدى الدائرتين، فدائرة ربوبية محتشمة منتظمة في غاية الاحتشام والانتظام. واما احد اللوحين فلوح صنعةِ مصنّعٍ مرصّع في غاية الاتقان والاتزان.

واما الدائرة الاخرى فهي دائرة عبودية منوّرة مزهرة في غاية الانقياد والاستقامة. واما اللوح الاخر، فهو لوح تفكر واستحسان في غاية الوسعة، وصحيفة تشكر وايمان في غاية الجمع.

فاذ شاهدت هاتين الدائرتين وهذين اللوحين، فانظر الى مناسبة الدائرتين واللوحين حتى تشاهد بالعيان:

ان دائرة العبودية تتحرك جميعُ جهاتها باسم الدائرة الاولى، وتعمل بجميع قوتها بحسابها. وحتى تشاهد بأدنى دقة ان لوح التفكر والتشكر والاستحسان والايمان ينظر بجميع معانيه واشاراته الى لوح الصنعة والنعمة.

فاذ شاهدتْ عينُك هذه الحقيقة فهل يمكن لعقلك ان ينكر اعظَم المناسبة بين رئيس دائرة العبودية وصاحب دائرة الربوبية؟ وهل يجوز لقلبك ان لايوقن بان ذلك الرئيس الذي يخدم بالاخلاص لمقاصد الصانع في تشهير صنعته وتقديرها، له مناسبة

عظيمة مع الصانع، وانتساب قوي اليه وله معه مكالمة ومنه اليه رسالة؟ نعم، فبالبداهة يُعْلَمُ انه محبوبٌ مقبولٌ عند مالك الملك بل احب الخلق اليه واقربهم منه.

فيا ايها الانسان!

هل يمكن في عقلك ان لايبالي ولايهتم صانعُ هذه المصنوعات المزيّنات بانواع المحاسن، ومُنعِمُ هذه النعم، المُراعي لدقائق الاذواق في افواه الخلق، بمثل هذا المصنوع الأجمل الأكمل المتوجه اليه بكمال الاشتياق والتعبد والتحبب، وبمثل هذا المخلوق الذي اطرب الفرشَ والعرشَ بوَلوَلة استحساناته، ودمدمة تقديراته، لمحاسن صنعة ذلك الصانع، واهتز البرُّ والبحرُ جذبةً من زمزمة تشكراته لاحسانات ذلك الفاطر، ومن شعشعة تكبيراته لعظمة ذلك الخالق المنعم؟

فهل يمكن ان لايبالي مثلُ ذلك الصانع المُحسن المقتدر بمثل هذا المصنوع المستحسن المتشكر؟ وهل يمكن ان لايتوجه اليه؟ وهل يمكن ان لايتكلم معه؟ وهل يمكن ان لا يحبه؟ وهل يمكن ان لايقرّبه اليه؟ وهل يمكن ان لايريد سرايَة وضعيته الحسنة وحالته الجميلة الى عموم الخلق؟ وهل يمكن ان لايجعله قدوةً للناس حتى ينصبغون بصبغته ووضعيته وحالته؟ وهل يمكن ان لايجعله رسولاً الى الناس كافة؟ ام هل يمكن ان لايكون لصانع هذه المصنوعات المنتظمة الدالة نقوش صنعتها على علم بلا نهاية وعلى حكمة بلا غاية شعورٌ واطلاعٌ على الفرد الأكمل والأجمل من مصنوعاته؟

ام هل يمكن ان يعلَم ويبصر ولايتكلم معه؟

ام هل يمكن ان يتودد ويتعرف بتزيينات مصنوعاته ولايودّ ولايعرف مَن يودّه كما يحق، ويعرفه كما يليق، ويتودد اليه بالصدق، ويتعبّد له بالحق؟ ..

الرشحة الرابعة عشرة

المتضمنة لقطرات من بحر المعجزة الكبرى

القطرة الاولى

اعلم! ان دلائل النبوة الاحمدية لاتعد ولا تحد؛ ولقد صنف في بيانها اعاظم المحققين. وأنا مع عجزي وقصوري قد بينت شعاعات من تلك الشمس في رسالة تركية مسماة بـ"شعاعات". وكذا بينت اجمالاً وجوه اعجاز معجزته الكبرى "اي القرآن"؛ وقد اشرتُ بفهمي القاصر الى مقدار اربعين وجه من وجوه اعجاز القرآن في [اللوامع] 1 ، وقد بينت من تلك الوجوه واحداً وهو البلاغة الفائقة النظمية في مقدار اربعين صحيفة من تفسيري العربي المسمى بـ"اشارات الاعجاز". فان شئت فارجع الى هذه الكتب الثلاثة..

القطرة الثانية

اعلم! انك قدتفهمت من الدروس السابقة ان القرآن الذي جاء من خالق هذه السموات والاجرام العلوية وهذه الارض والموجودات السفلية، ويعرّف لنا ربَّنا ربَّ العالمين، له مقامات ووظائف كثيرة.

فان قلت: القرآن ماهو ؟

قيل لك هو الترجمة الازلية لهذه الكائنات والترجمان الابدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسّر كتاب العالم. وكذا هو كشافٌ لمخفيات كنوز الاسماء المستترة في صحائف السموات والارض. وكذا هو مفتاح لحقائق الشؤن المُضْمَرة في سطور الحادثات. وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة. وكذا هو خزينة المخاطبات الازلية السبحانية والالتفاتات الابدية الرحمانية. وكذا هو اساسٌ وهندسةُ وشمسٌ لهذا العالم المعنوي الاسلامي. وكذا هو خريطة للعالم الاخروي. وكذا هو قولٌ شارحٌ وتفسير واضحٌ وبرهان قاطعٌ وترجمان ساطعٌ لذات الله وصفاته واسمائه وشؤنه. وكذا هو مربٍّ للعالم الانساني. وكالماء وكالضياء للانسانية الكبرى التي هي الاسلامية.. وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر، وهو المرشد المهدي الى

1 المنشورة ملحقةً بالمجلد الاول من الكليات.

ماخُلِقَ البشر له. وكذا: هو للانسان كما انه كتاب شريعة، كذلك كتاب حكمة. وكما انه كتاب دعاء وعبودية، كذلك هوكتاب امر ودعوة. وكما انه كتاب ذكر، كذلك هوكتاب فكر. وكما انه كتاب واحد، لكن فيه كتب كثيرة في مقابلة جميع حاجات الانسان المعنوية، كذلك هو كمنزل مقدسٍ مشحون بالكتب والرسائل، حتى انه قد ابرز لمشرب كل واحدٍ من اهل المشارب المختلفة، ولمسلكِ كل واحدٍ من اهل المسالك المتباينة من الاولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين رسالة لائقةً لمذاق ذلك المشرب وتنويره، ولمساق ذلك المسلك وتصويره حتى كأنه مجموعة الرسائل..

القطرة الثالثة

في بيان لمعة الاعجاز في تكرارات القرآن 1. وفي هذه اللمعة ستة نقط:

النقطة الاولى:

اعلم! ان القرآن لأنه كتابُ ذكرٍ، وكتابُ دعاء وكتابُ دعوةٍ، يكون تكرارُه أحسن وأبلغ بل ألزم. اذ الذكر يُكرَّر، والدعاء يُردَّد، والدعوةُ تُؤكَّد. اذ في تكرير الذكر تنويرٌ، وفي ترديد الدعاء تقريرٌ، وفي تكرار الدعوة تأكيدٌ.

النقطة الثانية:

اعلم! ان القرآن خطاب ودواء ٌلجميع طبقات البشر من اذكى الاذكياء الى اغبى الاغبياء؛ ومن اتقى الاتقياء الى اشقى الاشقياء؛ ومن الموفقين المجدّين الفارغين من الدنيا الى المخذولين المتهاونين المشغولين بالدنيا. فاذاً لايمكن لكل احد في كل وقتٍ قراءة تمام القرآن الذي هو دواء وشفاء لكل احدٍ في كل وقتٍ. فلهذا أدرج الحكيمُ الرحيم اكثر المقاصد القرآنية في اكثر سُوَرٍ؛ لاسيما الطويلة حتى صار كل سورة قرآناً صغيراً، فسهل السَبيل لكل احدٍ. وينادي مشوّقاً

(وَلَقَدْ يَسَّرنْا القرآنَ لِلذّكْرِ فَهَل مِنْ مُدَّكِر) 2.

1 المسألة العاشرة من الشعاع الحادى عشر توضح حكمة التكرار ايضاحاً وافياً.

2 القمر: 17

النقطة الثالثة:

اعلم! انه كما ان الحاجات الجسمانية مختلفة في الاوقات؛ فالى بعضٍ في كل آن كالهواء، والى قسم في كل وقت حرارة المعدة كالماء ، والى صنف في كل يوم كالغذاء ، والى نوع في كل اسبوع كالضياء ، والى طائفة في كل شهر، والى بعض في كل سنة كالدواء ، كلها في الاغلب، وقس عليها. كذلك ان الحاجات المعنوية الانسانية ايضا مختلفة الاوقات، فالى قسم في كل آن كـ (هو والله)، والى قسم في كل وقت كـ (بسم الله). والى قسم في كل ساعة كـ

(لا اله الا الله) وهكذا فقس.

فتكرار الآيات والكلمات: للدلالة على تكرر الاحتياج، وللاشارة الى شدة الاحتياج اليها، ولتنبيه عرق الاحتياج وايقاظه، وتشويق على الاحتياج، ولتحريك اشتهاء الاحتياج الى تلك الاغذية المعنوية .

النقطة الرابعة:

اعلم! ان القرآن مؤسِّس لهذا الدين العظيم المتين ولأساساته، واساسات لهذا العالم الاسلامي، ومقلب لاجتماعيات البشر ومحولها ومبدلها. ولابد للمؤسس من التكرير للتثبيت، ومن الترديد للتأكيد، ومن التكرار للتقرير والتأييد.

وكذا ان القرآن فيه اجوبة لمكررات اسئلة الطبقات المختلفة البشرية بألسنة الاقوال والاحوال.

النقطة الخامسة:

اعلم! ان القرآن يبحث عن مسائل عظيمة ويدعو القلوب الى الايمان بها، وعن حقائق دقيقة ويدعو العقول الى معرفتها. فلابد لتقريرها في القلوب وتثبيتها في افكار العامة من التكرار في صورة مختلفة واساليب متنوعة.

النقطة السادسة:

اعلم! ان لكل آيةٍ ظهراً وبطناً وحدّاً ومطّلعاً، ولكل قصد وجوهاً واحكاماً وفوائد ومقاصد، فتذكر في موضعٍ لوجهٍ، وفي آخر لاخرى، وفي سورةٍ لمقصدٍ وفي اخرى لآخر وهكذا، فعلى هذا لاتكرار الا في الصورة. .

القطرة الرابعة

في بيان لمعة الاعجاز في اهمال القرآن في بعض المسائل الكونية الفلسفية وابهامه في بعض آخر منها، واجماله في قسم منها، وفي هذه اللمعة ست نكت:

النكتة الاولى:

فان قلت: لاي شئ لا يبحث القرآن عن الكائنات كما يبحث عنها فن الحكمة والفلسفة ؟

قيل لك: لان الفلسفة عدِلَت عن طريق الحقيقة فأستخدمت الموجودات لأنفسها "بالمعنى الاسمى". واما القرآن فبالحق اُنزل وبالحق نَزَل والى الحقيقة يذهب فيستخدم الموجودات بالمعنى الحرفى لا لأنفسها بل لخالقها.

فان قلت: لأي شئ ابهم القرآن واجمل في امثال ماهية الاجرام العلوية والسفلية وشكلها وحركتها على ما بيّنها الفن1؟

قيل لك: لأن الابهامَ أهم والاجمالَ اجمل :

فاولا: لان القرآن انما يبحث عن الكائنات استطراداً للاستدلال على ذات الله وصفاته، ومن شرط الدليل ان يكون ظاهراً وأظْهَر من النتيجة، والنتيجة معرفة ذات الله وصفاته واسمائه. فلو قال على ما يشتهيه اهل الفن:

"يا ايها الناس فانظروا الى الشمس في سكونها،

والى الارض في حركتها لتعرفوا عظمة قدرة خالقها "، لصار الدليل أخفى وأغمض من النتيجة وأبعد بمراتب من فهم اكثر البشر في اكثر الازمان والاعصار، مع ان حق الاكثر المطلق اهم في نظر الارشاد والهداية. فمراعاة فهمهم لاتنافي استفادة المتفلسفين المتعمقين القليلين. ولكن في مراعاة هذا الاقل محرومية الاكثر في اكثر الاوقات.

وثانيا: ان من شأن البلاغة الارشادية مماشاة نظر العموم، ومراعاة حس العامة ومؤانسة فكر الجمهور؛ لئلا يتوحش نظرهم بلا طائل ولا يتشوش فكرهم بلا فائدة، ولا يتشرد حسهم بلا مصلحة فابلغُ الخطاب معهم والارشاد: ان يكون ظاهراً بسيطاً سهلا لايعجزهم، وجيزاً لا يملهم، مجملا فيما لايلزم تفصيله لهم.

1 أي العلوم الحديثة وتفصيل المسألة في الشعلة الثانية من الكلمة الخامسة والعشرين.

وثالثا: ان القران لا يذكر احوال الموجودات لها، بل لموجدها.. فالاهم عنده احوالها الناظرة الى مُوجدها. واما فن الحكمة فتبحث عنها لها. فالاهم عنده احوالها الناظرة الى نفسها.. فشتان ما بين الثريا والثرى.

وكذا ان التنزيل يخاطب كل الناس ويراعى فهم الاكثر ليعرفوا تحقيقاً لا تقليداً.. والفن يتكلم بالاصالة مع اهل الفن، واما مع العموم فلتقليد. فما فصَّل فيه الفن - بشرط الصدق - لابد ان يجمل فيه القرآن او يبهم او يهمل على درجات نفع العامة.

ورابعاً: ان القرآن لانه مرشد لكل طبقات البشر تستلزم بلاغة الارشاد ان لا يذكر ما يوقع الاكثر في المغلطة والمكابرة مع البديهيات في نظرهم الظاهري، وان لا يغير بلا لزوم ما هو من المتعارفات المحسوسة عندهم، وان يهمل او يجمل ما لا يلزم لهم في وظيفتهم الاصلية.

مثلا: يبحث عن الشمس، لا للشمس ولا من ماهيتها، بل لمن نوّرها وجعلها سراجاً، وعن وظيفتها بصيرورتها زنبرك انتظام صنعة، ومركز نظام خلقة، ومكوك انسجام صبغة في نسج النقاش الازلي لهذه المنسوجات بخيوط الليل والنهار، في اختلاف الفصول، المفروشات تلك المنسوجات على وجه الارض والسماء. ليعرفنا القرآن باراءة نظام النسج وانتظام المنسوجات كمالات فاطرها الحكيم وصانعها العليم. وحركة الشمس سواء كانت ظاهرية او حقيقية، لا تؤثر في مقصد القرآن. اذ المقصد اراءة نسج النظام الحكيم في ضمن اراءة جريان الشمس المشهود. فالنسج مشهود بكمال حشمته فلا يضره سكون الشمس في الحقيقة على ما يزعمه الفن..

النكتة الثانية:

ان القرآن يقول: (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) 1 و

(والشَمْسُ تَجْري لمُستَقَرٍ لها) 2

فان قلت: لاي شئٍ عبّر عن الشمس بالسراج، مع انها عند الفن اعظم من ان تكون تابعةً للارض، بل هي مركز الارض مع السَّــيَّاراتِ؟

1 نوح: 16

2 يس: 38

قيل لك: ان في التعبير بالسراج تصويرُ العالم بصورة قصر؛ وتصويرُ الاشياء الموجودة فيه في صورة لوازمات ذلك القصر ومزيناته ومطعوماته لسكان القصر ومسافريه، واحساسٌ انه قد احضرتْها لضيوفه وخدامه يدُ كريم رحيم. وما الشمس، الا مأمور مسخر وسراج منور. ففي تعبير السراج؛ اخطار رحمة الخالق في عظمة ربوبيته، وافهام احسانه في وسعة رحمته.. واحساس كرمه في حشمة سلطنته.. واعلان وحدانيته باراءة اعظم مايتوهمه المشرك معبوداً؛ انه ما هو الا سراج مسخر. اذ اين السراج المسخر الجامد واين لياقة العبادة؟

وفي تعبير الجريان اخطار التصرفات المنتظمة العجيبة في ما بين اختلاف الليل والنهار ودوران الصيف والشتاء. . وفي اخطارها افهام عظمة قدرة الصانع في انفراده في ربوبيته.

فمن نقطتي الشمس والقمر يوجه الذهن الى صحائف الليل والنهار، والصيف والشتاء، ومنها الى سطور الحادثات المكتوبة في اجوافها. فتعبير الجريان عنوان لهذه المعاني، فيكفي ظاهر العنوان ولا تعلق للمقصد بحقيقته.

فانظر الى كلمات القرآن مع كونها سهلةً بسيطةً معروفةً؛ كيف صارت ابواباً ومفاتيح لخزائن لطائف المعاني. ثم انظر الى مطنطنات كلمات الحكمة الفلسفية كيف انها مع شعشعتها لا تفيدك كمالا علميا ولا ذوقاً روحيا، ولا غاية انسانية ولا فائدة دينية. بل انما تفيدك حيرة مدهشة ودهشة موحشة. وتسقطك من سماء التوحيد المضئ في اودية الكثرة المظلمة. فاستمع بعض ما يقول الفلسفي في الشمس يقول:

(هي كتلة عظيمة من المائع النارى اعظم من ارضنا بمليون وثلاثمائة الف مرة، تدور على نفسها في مستقرها، تطايرت منها شرارات وهي ارضنا وسيارات اخرى. فتدور هذه الاجرام العظيمة المختلفة في الجسامة، والقرب من الشمس والبعد منها، بالجاذب العمومي حول الشمس في الفضاء الخالي. فان خرج احدها من مداره بالتصادف بحادثة سماوية كمرور النجم ذي الذنب به لحصل هرج ومرج في المنظومة الشمسية، وفي الدنيا بدرجة تتدهش منه السموات والارض). فانظر الى

نفسك ما افادتك هذه المسألة ؟..

فيا سبحان الله!.. كيف تقلب الضلالة شكل الحقيقة، وما "الشمس مع سياراتها، الا مصنوعةٌ موظفةٌ ومخلوقةٌ مسخرةٌ بامر فاطرها الحكيم وبقوة خالقها القدير. وما هي مع عظمتها الا قطرة متلمعة في وجه بحر السماء يتجلى شعاع من اسم (النور) عليها".

والفلاسفة لو ادرجوا في مسائلهم قبساً من القرآن فقالوا: يفعل الله بهذه الاجرام المدهشة الجامدة وظائف في غاية الانتظام والحكمة، وهي في غاية الاطاعة لامره لكان لِعِلْمِهِمْ معنىً، والاّ بان اسندوا الى انفسها والى الاسباب صاروا كما قال القرآن (وَمَنْ يُشْرك بالله فكاَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطيرُ اَوْ تَهْوي بِهِ الرّيحُ في مكانٍ سَحِيقٍ) 1 وقس على هذه المسألة سائر المسائل. .

النكتة الثالثة:

اعلم! ان مقاصد القرآن الاساسية وعناصره الاصلية اربعة: التوحيد، والرسالة، والحشر، والعدالة مع العبودية. فيصير سائر المسائل وسائل هذه المطالب. ومن القواعد: عدم التعمق في تفصيل الوسائل، لئلا ينتشر البحث بالاشتغال بما لا يعني فيفوت المقصد. فلهذا قد ابهم وقد اهمل وقد اجمل القرآن في بعض المسائل الكونية. وكذا ان الاكثر المطلق من مخاطب القرآن عوام وهم لا يقتدرون على فهم الحقائق الغامضة الالهية بدون توسيط التمثيل والتقريب بالاجمال، ولا يستعدون في كل وقت لمعرفة مسائل لم يوصل اليها بعدُ القرون الطويلة الا قليل من الفلاسفة. فلهذا اكثر القرآن من التمثيل، ومن التمثيل بعض المتشابهات فانها تمثيلات لحقائق غامضة إلهية. واجمل فيما كشفه الزمانُ بعد عصور وبعد حصول مقدمات مرتبة..

النكتة الرابعة:

اعلم! انه كما ان الساعة غير ثابتة بل متزلزلة مضطربة الآلات، كذلك الدنيا التي هي ساعة كبرى ايضا متزلزلة. فبادراج الزمان فيها صار "الليل والنهار" كميلين يعدان ثوانيها، و"السنة" ابرة تعد دقائقها، و"العصر" كابرة تعد ساعاتها. وبادراج المكان فيها صار "الجو" بسرعة تغيره وتحوله وتزلزله كميل الثواني، و"الارض" بتبدل

1 الحج: 31

وجهها نباتاً وحيواناً، موتاً وحياة كميل الدقائق، وبتزلزل بطنها وتولد "جبالها" كميل الساعات، و"السماء" بتغيراتها بحركات اجرامها وظهور ذوي الاذناب والكسوفات والشهابات كالميل الذي يعد الايام.

فالدنيا المبنية على هذه الاركان السبعة - مع انها واصفة لشؤونات الاسماء ولكتابة قلم القدرة والقدر - فانية هالكة متزلزلة راحلة كالماء السيال في الحقيقة، لكن تجمدت صورة بالغفلة وتكدرت بالطبيعة فصارت حجاباً عن الآخرة. فالفلسفة السقيمة والمدنية السفيهة تزيدان جمودتها وكدورتها بالتدقيقات الفلسفية والمباحث الطبيعيّة. واما القرآن فينفش الدنيا كالعهن بآياته، ويشففها ببيناته، ويذيبها بنيراته، ويمزق ابديتها الموهومة بنعياته، ويفرق الغفلة المولدة للطبيعة برعداته. فحقيقة الدنيا المتزلزلة تقرأ بلسان حالها المذكورة آية:

(وَاِذا قُرِىءَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَاَنْصِتُوا لَعَلكُمْ تُرْحَمُونَ) 1.

فلهذا اجمل القرآن فيما فصلت فيه الفلسفة من ماهيات الاشياء وخواصها. . وفصل فيما اجملت او اهملت فيه من وظائفها في امتثال الاوامر التكوينيةِ، ودلالاتها على اسماء فاطرها وافعاله وشؤونه.

الحاصل: ان القرآن يبحث عن معاني كتاب الكائنات ودلالاتها، اما الفلسفة فانما يبحث عن نقوش الحروف ووضعياتها ومناسباتها. ولا تعرف ان الموجودات كلماتٌ تدل على معانٍ. فان شئت ان ترى فرق حكمة الفلسفة، وحكمة القرآن فراجع ما في بيان آية (وَمَنْ يُؤتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ اوُتِيَ خَيْراً كَثيراً) 2.

النكتة الخامسة :

[تحال الى الانوار الثلاثة من الشعلة الثانية للكلمة الخامسة والعشرين "المعجزات القرآنية" حيث تتضمن هذه النكتة آيات كثيرة جداً والمقام هنا ليس مقام ايضاح]3.

1 الاعراف: 204

2 البقرة: 269 وبيان الآية الكريمة في الكلمة الثانية عشرة.

3 هذه النكتة الخامسة موجودة بكاملها في الرسالة الاخيرة »انوار من نجوم القرآن«.

النكتة السادسة:

اعلم! انه يفهم من هذه النكتة السابقة ان القرآن انما ينظر الى وجوه دلالات الآثار على افعاله تعالى، والى وجوه اظهار الافعال لاسمائه سبحانه، والى صور انصباب الافعال الى الاسماء او جريانها من الاسماء، والى وجوه احاطة الاسماء التي هي اشعة الصفات بالاشياء.

الحاصل: ان القرآن انما ينظر من الموجودات الى وجوهها الناظرة الى فاطرها. واما الفلسفة فانما تنظر من الموجودات الى وجوهها الناظرة الى انفسها واسبابها، وغايتها الناظرة الى مصالح جزئية فلسفية اوصنعوية. فما اجهل من اغتر بالفنون الفلسفية، وصيرها محكاً لمباحث القرآن القدسية. ولقد صدق من قال: "ان الفنون جنون كما ان الجنون فنون".

القطرة الخامسة

اعلم! ان من لمعات اعجاز القرآن كما ذكرت في (حبة) انه جمع السلاسة الرائقة والسلامة الفائقة والتساند المتين والتناسب الرصين والتعاون بين الجمل وهيئاتها والتجاوب بين الآيات ومقاصدها بشهادة علم البيان وعلم المعاني، مع انه نزل في عشرين سنة نجما نجما لمواقع الحاجات، نزولاً متفرقاً متقاطعاً مع كمال التلاؤم كأنه نزل دفعة، ولاسباب نزول مختلفة متباينة مع كمال التساند كأن السبب واحد، وجاء جواباً لاسئلة مكررة متفاوتة مع نهاية الامتزاج والاتحاد كأن السؤال واحد. وجاء بيانا لحادثات احكام متعددة متغايرة مع كمال الانتظام كأن الحادثة واحدة. ونزل متضمنا لتنزلات الهية في اساليب تناسب افهام المخاطبين ، لاسيما فهم المنزل بحالات في التلقى متنوعة متخالفة مع حسن التماثل والسلاسة كأن الحالة واحدة. وجاء متكلما متوجها الى اصناف مخاطبين متعددة متباعدة مع سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الافهام كأن المخاطب واحد بحيث يظن كل صنف انه المخاطب بالاصالة. ونزل مهديا وموصلا لغايات ارشادية متدرجة متفاوتة مع كمال الاستقامة والموازنة والنظام كأن المقصد واحد؛ فمن كانت له عين سليمة في بصيرته، فلا ريب انه يرى في القرآن عيناً ترى كل الكائنات ظاهراً وباطناً كصحيفة مبصرة واضحة يقلّبها كيف يشآء، فيعرِّف معانيها على ما يشاء..

القطرة السادسة

في بيان انه لا يقاس القرآن على سائر الكلام، كما ذكرت في رسالة "قطرة" .

اعلم! ان منابع علو طبقة الكلام وقوته وحسنه وجماله اربعة: المتكلم، والمخاطب، والمقصد، والمقام، لا المقام فقط.. كما ضل فيه الادباء.

فانظر الى من قال؟ ولمن قال ؟ ولما قال؟ وفيما قال؟ فالكلام ان كان امراً ونهياً فقد يتضمن الارادة والقدرة بحسب درجة المتكلم، فتتضاعف علويته وقوته.

نعم اين صورة امر فضولي ناشئٌ أمره من اماني التمني وهو غير مسموع ؟

واين الامر الحقيقي النافذ المتضمن للقدرة والارادة ؟ فانظر اين

(يَااَرْضُ ابْلَعي مَاءكِ وياسَماءُ اقْلِعي) 1

(فَقَالَ لَهَا ولِلارْضِ ائتيا طَوْعَاً اوْ كرهاً قَالتآ اتَيْنَا طآئِعينَ) 1

واين خطاب البشر للجمادات بصورة هذيانات المبرسمين في المرض:

اسكني يا ارض وانشقي يا سماء وقومي ايها القيامة"؟.

وكذا، اين امر امير مطاع لجيش عظيم مطيع بـ (آرش!..)

واهجموا على اعداء الله، واين هذا الامر اذا صدر من حقير لا يُبالى به وبامره؟ اين (اذَا ارَادَ شيئاً انْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) 3

واين كلام البشر ؟ وكذا اين تصوير مالكٍ حقيقي، وآمر مؤثر امره، ونافذ حكمه ؟. وبيان صانع وهو يصنع، ومنعم وهو يحسن قد شرع في آن الصنعة والاحسان يصور افاعيله، يقول فعلت كذا وكذا، وافعل هذا وذاك. انظر الى

(افَلَمْ يَنْظُروُا الى السَّماء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاها وزَيَّنَّاها ومَالَها مِنْ فُرُوجٍ _ والاَرْضَ مَدَدْنَاهَا واَلْقَيْنَا فيهَاَ رَوَاسِي وانْبَتْنَا فيها مَنْ كُلّ زَوْجٍ بَهيجٍ _

تبصِرةً وذكرى لِكُلِ عَبْدٍ منيب _

ونَزَّلْنَا مِنَ السَّمآء مآءً مُبَارَكاً فَاَنْبَتْنَا بِه جَنَّاتٍ وحَبَّ الْحَصيد _

والنّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضيد _

رِزقاً لِلعبادِ واحْيَينا بِهِ بَلدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الخُروجُ) 4.

ثم اين تصوير فضولي في بحثه عن افاعيل لا تماس له بها؟ نعم اين اعيان النجوم.. ثم اين تماثيلها الصغيرة السيالة - التي لا هي موجودة ولا معدومة - المرئية في الزجيجات؟ نعم اين ملائكة كلمات كلام خالق الشمس والقمر الملهمة لانوار الهداية.. ثم اين

1 هود: 44

2 فصلت: 11

3 يس: 82

4 ق: 6-11

زنابير مزوّرات البشر النفاثات في عقد الهوسات؟ نعم اين الفاظ القرآن التي هي اصداف جواهر الهداية، ومنبع الحقائق الايمانية، ومعدن الاساسات الاسلامية المنبثة من عرش الرحمن مع تضمن تلك الالفاظ للخطاب الازلي وللعلم والقدرة والارادة.. ثم اين الفاظ الانسان الهوائية الواهية الهوسية؟ نعم اين القرآن الذي هو كشجرة تفرعت واورقت وازهرت واثمرت هذا العالم الاسلامي بمعنوياته وشعائره وكمالاته ودساتيره واصفيائه واوليائه، حتى انقلب كثير من نواة تلك الشجرة الطوبائية دساتير عملية اشجاراً مثمرة الذي قيل في حقه:

(قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الانْسُ والجِنُ عَلى انْ يَأتوا بِمِثْلِ هذا القُرآنِ

لا يَأتونَ بِمثْلِهِ ولَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لبَعْضٍ ظَهيراً) 1

وقد افحم بجزالة نظمه وبلاغة معناه، وبداعة اسلوبه، وبراعة بيانه، وفصاحة لفظه، في جامعية اللفظ لوجوه كثيرة مقبولة. وحسن دلالته في جامعيته لبحر هذه الشريعة المتضمنة للحقيقة والطرائق بمأخذ المجتهدين، واذواق العارفين، ومشارب الواصلين، ومسالك الكاملين، ومذاهب المحققين.. وبطراوة شبابيته في كل عصر، وبلياقته وموافقته في كل عصر لكل طبقة. واَلزَم مصاقع الخطباء ونوابغ العلماء، بل اعجز جميع البشر ان يأتوا بسورة من مثله؟ ثم اين كلام البشر؟. اين الثرى من الثريا!..

اللَّهم بحق القرآن وبحق من انزل عليه القرآن نور قلوبنا بنور القرآن واجعل القرآن شفاءً لنا من كل داءً، ومونساً لنا في حياتنا وبعد مماتنا، واجعله لنا في الدنيا قريناً وفي القبر مونساً وفي القيامة شفيعاً وعلى الصراط نوراً ومن النار ستراً وحجاباً، والى الجنة رفيقاً والى الخيرات دليلاً واماماً بفضلك وحمدك وكرمك واحسانك ورحمتك يا اكرم الاكرمين ويا ارحم الراحمين.

وصل وسلم على من انزلت عليه القرآن وارسلته رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه صلاةً ترضيك وترضيه وترضى بها يارب العالمين. .

فيا منزل القرآن بحق القرآن اجعل هذا الكتاب نائباً عني ناطقاً بهذا الدعاء بدلاً عني، اذا أسكت الموت لساني آمين. الف آمين. .

1 الاسراء: 88

المثنوي العربي النوري - رشحات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق