السبت، 21 فبراير 2009

فقه السيرة النبوية _ حجة الوداع و خطبته

فقه السيرة النبوية

القسم السادس : الفتـــح -مقدماته و نتائجه - مرحلة جديدة من الدعوة

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين

حجة الوداع و خطبته:

روى الإمام مسلم بسنده عن جابر رضى الله عنه قال : مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة تسع سنين لم يحج ’ ثم أذن فى الناس فى العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج ’ فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ’ ويعمل مثل عمله.
وخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة لخمس ليال بقين من ذى القعدة ’ قال جابر : فلما استوت به ناقته فى البيداء ’ نظرت الى مدّ بصرى بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم من راكب وماشِ ’ وعن يمينه مثل ذلك ’ وعن يساره مثل ذلك ’ ومن خلفه مثل ذلك ’ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ’ وعليه ينزل القرآن . واختلف الرواة ’ فأهل المدينة يروون أنه صلى الله عليه وسلم أهلّ بالحج مفرداً ’ ويروى غيرهم أنه قرن مع حجته عمرة ’ وروى بعضهم أنه دخل مكة متمتعاً بعمرة ’ ثم أضاف إليه حجة . ودخل مكة من أعلاها من طريق كداء حتى إنتهى الى باب بنى شيبة ’ فلما رأى البيت قال :( اللهم زد هذا البيت تشريفاً و تعظيماً وتكريماً ومهابة وزد من عظّمه ممن حجه واعتمره تشريفاً وتكريماً ومهابة وتعظيماً وبراً ) ’ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجه ’ فعلم الناس مناسكهم وبين لهم سنن حجهم ’وألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى يوم عرفة خطبة جامعة فى جموع المسلمين الذين احتشدوا حوله فى الموقف ’

هذا نصها :

( أيها الناس : إسمعوا قولى ’ فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبداً .

أيها الناس : إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا ’ ألا وإن كل شىء من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع ودماء الجاهلية موضوعة ’ وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة ابن الحارث ’ وربا الجاهلية موضوع ’ وأول رباً أضع ربا العباس ابن عبد المطلب ’ فإنه موضوع كله .

أيها الناس : إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً ’ ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم ’ فاحذروه على دينكم ’

أيها الناس : إن النسىء زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ’ وإن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السموات و الأرض ’ السنة إثنا عشر شهراً ’ منها أربعة حرم ’ ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان .

إتقوا الله ى ف النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمان الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله ’ إن لكم عليهنّ حقاً ولهنّ عليكم حقاً : لكم عليهنّ أن لا يوطئنّ فرشكم أحداً تكرهونه ’ فإن فعلنّ ذلك فاضربوهنّ ضرباً غير مبرح ’ ولهنّ عليكم رزقهنّ و كسوتهنّ بالمعروف .

فاعقلوا أيها الناس قولى فإنى قد بلغت ’ وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وسنة رسوله .

أيها الناس إسمعوا وأطيعوا وإن أمّر عليكم عبد حبشى مجدّع ما أقام فيكم كتاب الله تعالى .

أرقاءكم أرقاءكم ... أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون ’ وإن جاؤا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم .

أيها الناس : إسمعوا قولى واعقلوه ’ تعلمنّ أن كل مسلم أخ للمسلم ’ وأن المسلمين أخوة ’ فلا يحل لامرىء من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه ’ فلا تظلمنّ أنفسكم اللهم هل بلغت ؟

وستلقون ربكم فلا ترجعوا بعدى ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض ’ ألا ليبلغ الشاهد الغائب ’ فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ’ وأنتم تسألون عنى فما أنتم قائلون ؟

قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ’ فقال بأصبعه السبابة يرفعها الى السماء وينكتها الى الناس : اللهم اشهد ( ثلاث مرات ) .

ثم لم يزل النبى صلى اله عليه وسلم فى عرفات حتى غربت الشمس ’ وحينئذ دفع بمن معه الى المزدلفة ’ وهو يشير بيده اليمنى قائلا :

أيها الناس السكينة السكينة ’ فصلى فى المزدلفة المغرب و العشاء جمع تأخير ’ وبات تلك الليلة فى المزدلفة ثم دفع قبل أن تطلع الشمس الى منى فرمى جمرة العقبة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها ثم إنصرف الى المنحر ’ فنحر ثلاثاً وستين بدنة ثم أعطى علياً فنحر ما غبر ( أى تتمة المائة ) ثم ركب رسول الله صلى اله عليه وسلم فأفاض الى البيت فصلى بمكة الظهر ’وأتى بنى عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال : انزعوا بنى عبد المطلب ’ فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوه فشرب منه ’ ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم عائداً الى المدينة .

العبر و العظات :

أولاً: عدد حجات الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن مشروعية الحج :

إختلف العلماء : هل حج رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هذه الحجة فى الإسلارم ؟.

فقد روى الترمذى وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج قبل هجرته الى المدينة ’ قال الحافظ ابن حجر فى فتح البارى : وهو مبنى على عدد وفود الأنصار الى العقبة بمنى بعد الحج ’ فإنهم قدموا أولاً فتواعدوا ’ ثم قدموا ثانياً فبايعوا بيعة العقبة الأولى ’ ثم قدموا الثالثة فبايعوا بيعة العقبة الثانية ’ ومنهم من روى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحج كل سنة قبل أن يهاجر ’ وأيا ما كان المر ’ فإنه مما لا شك فيه أن وجوب الحج إنما شرع فى العام العاشر من الهجرة ’ فلم يكن واجباً قبل ذلك ولم يحج النبى صلى الله عليه وسلم بعدها غير هذه الحجة ’ ولذلك كان يطلق عليها كثير من الصحابة اسم حجة الإسلام ’ أو حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ’وبها عنون الإمام مسلم حديث هذه الحجة .
ومن الأدلة على ذلك ما رواه الشيخان من خبر وفد عبد القيس الذين قدموا على النبى صلى الله عليه وسلم فقد جاء فيهم أنهم قالوا له صلى الله عليه وسلم : مرنا بأمر فصل نأخذ به ونأمر به من وراءنا وندخل به الجنة ’ فقال : آمركم بأربع و أنهاكم عن أربع ’ وعدد لهم الأوامر الأربع فقال : آمركم بالإيمان بالله ’ وإقام الصلاة ’وإيتاء الزكاة وصوم رمضان ’ وأن تعطوا الخمس من الغنم ’ ويبدوا أنه ذكر الأمر بالإيمان زيادة على الأربع ’ إذ هو معروف لهم ’ غير أنه أعاد الأمر للتأكيد و لبيان أنه أساس الأوامر الأربعة التى ذكرها بعد ’ وقد كان مجىء هذا الوفد فى السنة التاسعة للهجرة ’ فلو كان الحج مفروضاً إذ ذاك لعده من جملة الأوامر التى وجهها إليهم .

ثانياً:- المعنى الكبير لحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم :

إن لحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه معنى جليلاً يتعلق بالدعوةالإسلامية ويتعلق بحياته صلى الله عليه وسلم ويتعلق بالمنهج العام للنظام افسلامى : لقد تعلم المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتهم وصيامهم وأمر زكاتهم وعامة ما يتعلق بهم من عبادات وواجبات ’ وبقى أن يعلمهم مناسكهم وكيفية أداء شعائر الحج بعد أن طويت تلك التقاليد الجاهلية المتوارثة ايام موسم الحج من تصدية وصفير وعرى أثناء الطواف ’ وقضى عليها مع القضاء على الأوثان وتطهير بيت الله الحرام منها . وإن الدعوة الى الحج لبيت الله الحرام ستظل قائمة الى يوم القيامة فهى دعوة أبى الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة و السلام بأمر من الله سبحانه وتعالى ’ ولكن إنحرافات الجاهلية وضلالات الوثنية قد زادت فيه تقاليد باطلة وصبغته بكثير من مظاهر الكفر و الشرك ’ وقد جاء الإسلام ليغسل هذه الشعيرة مما قد علق بها من أدران ’ ويعيدها نقية صافية تشع بنور التوحيد وتقوم على أساس العبودية المطلقة لله تعالى ’ ومن أجل ذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حاج الى بيت الله الحرام ومن أجل ذلك اقبل الناس من كل حدب وصوب يريدون أن يأتموا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعلموا الأعمال الصحيحة للحج فلا يقعوا فى رواسب التقاليد الجاهلية البائدة .
ويبدو أنه قد ألقى فى روعه صلى الله عليه وسلم أن مهمته فى الأرض توشك أن تنتهى ’ فقد أدى الأمانة وأينعت أرض الجزيرة العربية بغرس التوحيد وانتشر الإسلام يغزو الأفئدة و القلوب فى كل مكان ’ وإن بالناس - وهم اليوم كثرة متفرقون - لشوقاً الى مزيد من اللقاء مع رسولهم و الإستفادة من هديه ونصائحه ’ وبه هو أيضاً صلى الله عليه وسلم شوقاً الى مزيد من اللقاء معهم لا سيما تلك الحشود التى دخلت فى الإسلام حديثاً من مختلف جهات الجزيرة العربية ’ ممن لم تتح لهم فرصة اللقاء الكافى معه صلى الله عليه وسلم ’ وإن أكبر وأجمل فرصة لذلك إنما هو فرصة اللقاء فى الحج الى بيت الله الحرام ’ وفى سفوح عرفات ’ لقاء بين أمة ورسولها فى ظل شعيرة من أكبر شعائر الإسلام ’ لقاء إتضح أنه كان فى علم الله تعالى وإلهام رسوله ’ لقاء توصية ووداع .

ويريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً أن يلتقى بهؤلاء الحشود المسلمة الذين جاؤا ثمرة جهاد استمر ثلاثة وعشرين عاماً ليلخص لهم تعاليم الإسلام ونظامه فى كلمات جامعة وموعظة مختصرة يضمنها كوامن وجدانه و نبرات محبته لأمته ’ وليستطلع من وجوههم صورة نسلهم وأعقابهم الذين سيأتون من بعد فينهى إليهم نصائحه وتوصياته من خلف حواجز الزمن ووراء أسوار القرون .
تلك هى بعض معانى حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم : حجة الوداع ’ وإنك لتراها متجسدة فى خطبته التى ألقاها فى وادى عرنة فى يوم عرفة .

ثالثاً:- تأملات فى خطبة الوداع :

ولله ما أروعها من كلمات ’ تلك التى ألقاها فى سفوح عرفات ’ راح يخاطب فيها الأجيال و التاريخ بعد أن أدى المانة ونصح للأمة وجاهد فى سبيل الدعوة الى ربه ثلاثة وعشرين عاماً لا يكل ولا يمل ’ ولله ما أروعها من ساعة تلك التى إجتمع فيها حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الآلاف المؤلفة ’ إجتمعوا خوله خاشعين متضرعين ’ وطالما تربصوا به قبل ذلك متآمرين ومحاربين ’ آلاف مؤلفة ما يمتد به النظر من كل الجهات ’ تردد بلسان حالها قول الله عز وجل :( إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) ’ وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر من حلال وجوههم الى الأجيال المقبلة الى العالم الإسلامى الكبير الذى سيملأ شرق الأرض و غربها ’ وراح يلقى على مسامع هذا العالم خطابه المودع :( أيها الناس اسمعوا قولى فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبداً .... ) . وأنصتت الدنيا لتسمع قوله ’ وأنصت الحجر و القفر و المدر الى الكلمة المودعة ينطق بها فم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أنست وسعدت به الدنيا كلها ثلاثة وستون عاما ’ ها هو اليوم يلمح بالرحيل ’ بعد أن قام بأمر ربه وغرس الأرض بغراس الإيمان وها هو الآن يلخص المبادىء التى جاء بها وجاهد فى سبيلها فى كلمات جامعة ’ وبنود معدودة ’ يلقى بها الى مسامع العالم

فماذا كان البند الأول منها؟

يا سبحان الله ما أجل وأروع !.. لكأنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يستلهم توصياته من واقع المنزلقات التى سينكب فيها أقوام من أمته عبر الزمن تائهين وراء غيرهم ضائعين عن القبس الذى سيتركه بين أيديهم فلقد كان أول بند منها قوله : أيها الناس ’ إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام الى أن تلقوا ربكم ’ كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا . ولقد كرر هذه التوصية نفسها مرة أخرى فى خاتمة خطابه ’ وأكد ضرورة الإهتمام بها وذلك عندما قال : تعلمنّ أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين أخوة ’ فلا يحل لإمرىء من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه ’ فلا تظلمنّ أنفسكم ’ ألا هل بلغت ؟ . ونحن نقول : أجل والله لقد بلغت يا سيدى ... ولعلنا اليوم أولى من ينبغى أن يجيبك : اللهم لقد بلغت !... وإن كان فى ذلك إنما نسجل مسؤولية على أعناقنا قصرنا كل التقصير فى القيام بحقها

أما البند الثانى : فلم يكن مجرد توصية ولكنه قبل ذلك قرار أعلن عنه للملأ كله لأولئك الذين كانوا من حوله و للأمم التى ستأتى من بعده ’ وهذه صيغة القرار : ألا إن كل شىء من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع !... دماء الجاهلية موضوعة .... ربا الجاهلية موضوع .

فما المعنى الذى تتضمنه صيغة القرار؟ ... إنه يقول : إن كل ما كانت الجاهلية تفخر وتتمسك به من تقاليد العصبية و القبلية وفوارق الغات و الأنساب و العرق واستعباد الإنسان أخاه الإنسان بأغلال الظلم و المراباة قد بطل أمره ومات إعتباره فهو اليوم جيفة منتنة غيبتها شريعة الله فى باطن الأرض ’ وأصبح مكانها من حياة المسلم اليوم تحت موطىء الأقدام ’ إنه رجس ولى ’ وعماهة أدبرت وغاشية بادت ’ فمن ذا الذى يرجع بعد ذلك لينبش التراب عن الجيفة المنتنة فيعانقها ؟

.. وأى عاقل يتقمم الأدران التى تخلص منها ليتمسح ثانية بها ؟ وأى أبىّ يعمد الى القيد الذى كسره البارحة وألقاه ليصلحه ويعود فيتقيد به اليوم ؟

أرجاس من تقاليد الجاهلية أبعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن منطلقات الإنسانية وتقدمها الفكرى و الحضارى وأعلن أنها قد عادت حثالة مدفونة تحت قدميه ’ كى يثبت للدنيا كلها ويسجل على سمع القرون و الأجيال أنه ما من تائه يزعم التقدم الفكرى إذ يعمد فينبش شيئاً من هذا الدفين القديم إلا وهو يرجع القهقرى يسبح فى أغوار قصية من التاريخ المظلم القديم ’ وإن من خيل إليه وهمه أنه إنما يتقدم صعداً ويخطوا مترقياً .

وأما البند الثالث : فقد أعلن فيه صلى الله عليه وسلم عن تطابق الزمن إذ ذاك مع أسماء الأشهر المقسم عليها ’ وذلك بعد طول تلاعب بها من العرب فى الجاهلية وصدر الإسلام فقد كانوا - كما يقول مجاهد وغيره - يجعلون حجهم كل عامين فى شهر معين من السنة ’ فيحجون فى ذى الحجة عامين ’ ثم يحجون فى المحرم عامين وهكذا ’ فلما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العام ’ وافق حجه شهر ذى الحجة وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك أن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق السموات و الأرض ’ أى فلا تتلاعبوا بالأشهر تقديماً وتأخيراً ولا حج بعد اليوم إلا فى هذا الزمن الذى استقر اسمه : ذا الحجة .

وذكر بعضهم أن المشركين كانوا يحسبون السنة إثنى عشر شهراً وخمسة عشر يوماً ’ فكان الحج فى رمضان وفى شوال وذى القعدة .... وفى كل شهر من السنة ’ وذلك بحكم استدارة الشهر بسبب زيادة خمسة عشر يوماً ’ ولقد كان حج أبى بكر فى السنة التاسعة من الهجرة واقعاً فى شهر ذى القعدة بسبب ذلك ’ فلما كان العام المقبل ’ وفيه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج الوداع ’ وافق حجه ذا الحجة فى العشر منه وطابق الأهلة ’ وأعلن حينئذ عليه الصلاة و السلام نسخ الحساب القديم للزمن وأن السنة تعتبر بعد اليوم إثنى عشر شهراً فقط ’ فلا تداخل بعد اليوم ’ قال القرطبى : وهذا القول أشبه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الزمان استدار ...) أى أن زمان الحج عاد الى وقته الأصلى الذى عينه الله يوم خلق السموات و الأرض بأصل المشروعية التى سبق بها علمه .

وفى البند الرابع : أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً بالنساء وأكد فى كلمته المختصرة الجامعة القضاء على الظلم البائد للمرأة فى الجاهلية ’ وتثبيت ضمانات حقوقها وكرامتها الإنسانية التى تضمنتها أحكام الشريعة الإسلامية ’ ولقد كانت هذه الحقيقة جديرة بتأكيد التوصية بها ’ بسبب أولئك المسلمين كانوا قريبى عهد بتقاليد الجاهلية التى تقضى بإهمال شأن المرأة وعدم الإعتراف بأى حق لها ’ ولعل هناك حكمة أخرى لهذه التوصية و الإهتمام بها ’ وهى أن يكون المسلمون فى كل عهد وطور من الزمن على بينة من الفرق الكبير بين كرامة المرأة و حقوقها الطبيعية التى ضمنتها الشريعة الإسلامية ’ وما يهدف إليه البعض من استباحة الوسائل المختلفة الى التمتع و التلهى بها ’ وهو ما حاربه الإسلام .

وفى البند الخامس : وضع النبى صلى الله عليه وسلم الناس من جميع المشاكل التى قد تعترض حياتهم أمام مصدرين لا ثالث لهما ’ ضمن لهم الإعتصام بهما الأمان من كل شقاء وضلال : هما كتاب الله وسنة رسوله . وإنك لتجده يتقدم بهذا التعهد و الضمان الى جميع الأجيال المتعاقبة من بعده ’ ليبين للناس أن صلاحية التمسك بهذين الدليلين ليس وقفاً على عصر دون غيره وأنه لا ينبغى أن يكون لأى تطور حضارى أو عرف زمنى أى سلطان أو تغلب عليهما .

وأما البند السادس :فقد أوضح فيه صلى الله عليه وسلم ما ينبغى أن يكون عليه علاقةالحاكم أو الخليفة أو الرئيس مع الرعية أو الشعب ’ إنها علاقة السمع و الطاعة من الشعب للحاكم مهما كان نسبه وشأنه ومظهره ما دام يحكم بكتاب الله وسنة رسوله ’ فإذا حاد عنهما فلا سمع ولا طاعة ’ فلا مناط لولاء الحاكم وضرورة اتباعه إلا سيره على نهج الكتاب و السنة وليكن بعد ذلك إن شاء عبداً حبشياً مجدعا ’ فلا يخفضه ذلك قيد شعرة عن غيره عند الله تعالى ’ ولقد أوضح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا ’ أنه لا إمتياز للحاكم من وراء حدود كتاب الله تعالى وسنة نبيه ’ ولا يمكن لحاكميته أن ترفعه قيد شعرة فوق مستوى المنهج و الحكم الإسلامى ’ إذ هو فى الحقيقة ليس بحاكم ولا يتمتع بأى حاكمية حقيقية ولكنه أمين من قبل المسلمين على تنفيذ حكم الله تعالى ’ ومن هنا لم تتعرف الشريعة الإسلامية على شىء مما يسمى بالحصانة أو الإمتيازات لطبقة ما من المسلمين فى شؤون الحكم أو القانون و القضاء .

وفى الختام .... يشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخرج مسؤولية الدعوة وتبليغها عن عنقه فها هو الإسلام قد إنتشر ’ وها هى ضلالات الجاهلية و الشرك قد تبددت وها هى أحكام الشريعة الإلهية قد بلّغت ’ وها هو الوحى ينزل عليه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى مخاطباً البشر كلهم :( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام ديناً ) .

ولكنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يطمئن الى شهادة أمته بذلك أمام الله تعالى يوم القيامة عندما يسألون .... فأعقب توصياته هذه لهم بأن نادى فيهم قائلا : إنكم ستسألون عنى ’ فما أنتم قائلون ؟

وارتفعت الأصوات من حوله تصرخ : نشهد إنك قد بلّغت .. وأديت .... ونصحت ’ وحينئذ اطمأن الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم !.....

لقد كان يريد أن يستوثق من هذه الشهادة التى سيلقى بها وجه ربه عز وجل ’ ولقد إطمأن الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ’ وشعشع الرضى فى عينيه ’ ونظر بهما الى الأعلى مشيراً بسبابته الى السماء ثم الى الناس يقول : اللهم اشهد . اللهم اشهد . اللهم اشهد .

وما أعظمها من سعادة سعادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبابه الذى أبلاه وعمره الذى أمضاه فى سبيل نشر شريعة ربه جل جلاله ’ وذلك حينما ينظر فيرى حصيلة الجهد الذى قدم و العمر الذى بذل ’ أصوتاً تعج وترتفع بتوحيد الله ’ وجباهاً تعنوا ساجدة لدين الله وقلوباً خفاقة تجيش بحب الله ’ ألا ما أسعد حبيب الله إذ ذاك بذكرى ما لقيه من ظمأ الهواجر وشتات السفر فى القفار ’ وإعذاب السخرية و الإيذاء فى سبيل هذا الإيمان الذى شاده فوق أرض الله !... فلتكتحل به عيناك يا سيدى سعادة وسروراً وليبارك لك ربك فى وجيب قلبك اليوم حمداً ونشوة وحبوراً .

ولا والله ما كان ذلك شهادة تلك الآلاف المحتشدة من حولك فحسب يا سيدى يا رسول الله ولكنها شهادة المسلمين فى كل جيل وعصر الى أن يرث الله الأرض ومن عليها تعلن بلسان حالها ومقالها : نشهد يا رسول الله أنك قد بلغت وأديت ونصحت ’ فجزاك الله عنا خير ما جوزى نبى عن أمته .

ولكن مسؤولية الدعوة قد إنتقلت من بعدك الى أعناقنا وما أبعدنا اليوم عن القيام بحقها وما أشد خيبتنا بلقائك يا سيدى غداً وإن علينا أوزاراً من التقاعس و التكاسل و الركون الى زهرة الحياة الدنيا ’ بينما يلتف من حولك أصحابك البررة الكرام وإن فى أيديهم ’ وعلى أبدانهم شهادة الدم الذى سفكوه و الجهد الذى بذلوه و الدنيا التى حطموها تحت أقدامهم نصرة لشريعتك ودفاعاً عن دعوتك وتأسياً بجهادك .

أصلح الله حالنا وحال المسلمين جميعاً وأيقظنا من سكرة الدنيا ونشوة الشهوات و الأهواء وتغمدنا بلطفه وكرمه وجوده .

وأتم صلى الله عليه وسلم حجه وتضلع من شرب ماء زمزم ’ وعلّم الناس مناسكهم ’ ثم عاد أدراجه الى المدينة ’ ليواصل السعى و الجهاد فى سبيل دين الله عز وجل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق