الأحد، 18 ديسمبر 2011

إتحاف الإخوان في حكم مصافحة النسوان


إتحاف الإخوان في حكم مصافحة النسوان

الدكتور رياض بن محمد المسيميري

مقدمة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحيمِ

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد,,
فممّا عمت به البلوى في زماننا هذا كثرة الاختلاط بين الرجال والنساء وما تبعه من تهاون في الحجاب وكثرة في الحديث والكلام بل وصل الأمر إلى حدّ المصافحة بين الرجال والنساء الأجنبيات إما جهلاً أو تجاهلاً ممّا جعل من الأهمية بمكان بحث المسألة شرعاً وتحري الحق عدلاً إفادةً للأمة وإبراءً للذمة .
والله الموفق .
المصافحة :
تعريف المُصَافَحَةِ :
قال الفيومي في المصباح ص 130 : ( صافحتُه مُصَافَحَةً : أفضيت بيدي إلى يده ) , وقال ابن فارس : "
صَفَحَ " الصادُ والفاء والحَاء : أصلٌ صحيحٌ مُطّرد يدل على عَرْض ، وعِرَض ، ومن ذلك صَُفح الشيء عُرْضُه .
ومن الباب : المُصَافَحَةُ باليد ، كأنَه ألصق يده بصفحة يد ذاك .
( المعجم :
2/ 293) .
تعريفها اصطلاحاً :
قال الحطاب المالكي
[1]: قال فقهاؤنا : المصافحة :

وضع كف على كفٍ مع ملازمة لهما قدر ما يفرغ من السلام .
وأما اختطاف اليد إثر التلاقي فمكروه .
وقال ابنُ حجر في الفتح (
11/ 54) : " المُصَافَحَةُ هي : مفاعلة من الصفحة ، والمراد بها : الإفضاء بصفحة اليد إلى صفحة اليد .
قلت : وقد بوّب البخاري : بابٌ : الآخذ باليد ، وصافح حماد ابن زيد ابن المبارك بيديه .
وقال الحافظ في الفتح (
11/ 56 ) .
(وقال ابن بطال : الأخذ باليد هو مبالغة المصافحة ، وذلك مستحب عند العلماء ) .
حُكم المصافحةِ :
قال النووي في الأذكار426) : ( فصل في المصافحة ) : اعلم أنها سنة مجمع عليها عند التلاقي "
وقال ابن بطال : المصافحة حسنة عند عامة العلماء ( الفتح / 11/55) وروينا في صحيح البخاري ( 6263) .
عن قتادة قال : قلت لأنس رضي الله عنه أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم .
وروينا في صحيحي البخاري (
4418) ومسلم ( 2769) في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه – في قصة توبته قال : فقام إليّ طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يهرول حتى صافحني وهنأني .
وروينا – بالإسناد الصحيح – في سُنن أبي داود (
5213) عن أنس رضي الله عنه قال : " لما جاء أهلُ اليمن ، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قد جاءكم أهل اليمن ، وهم أول من جاء بالمصافحة )) .
قلت : وقد عزا الحديث إلى الأدب المفرد وسنن أبي داود ابنُ حجر العسقلاني وصحح إسناده بلفظ : أقبل أهل اليمن ، وهم أول من حيّانا بالمصافحة الفتح (
11/ 54) .
وعند الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال : قال رجل يا رسول الله ، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أ ينحني له ؟
قال : " لا " قال : أفيقبله ؟ قال : ( لا ) قال فيأخذ بيده ويصافحه ؟ قال : ( نعم ) قال الترمذي هذا حديث حسن
القول بالكراهية :
قال ابن حجر في الفتح ( 11/ 55) .
قال ابن عبد البر : روى ابن وهب عن مالك أنه كره المصافحة ، والمعانقة ، وذهب إلى هذا سحنون وجماعة ، وقد جاء عن مالك جواز المصافحة ، وهو الذي يدل عليه صنيعه في الموطأ ، وعلى جوازه جماعة العلماء سلفاً وخلفاً والله أعلم .
قلت : ولا ريب أنّ الصواب الذي لا محيد عنه هو مشروعية المصافحة واستحبابها بين الرجال مع الرجال وبين النساء مع النساء !!
كما أنه لا بأس من المصافحة بين الرجال ومحارمهم إذا أمنت الفتنة .
فائدة : حُكْمُ تَقبيل اليدّ :
قال الحافظ ابن حجر : ( 11/56) : قال ابن بطال : .. وإنما اختلفوا في تقبيل اليد فأنكره مالك ، وأنكر ما روى فيه ، وأجازه آخرون واحتجوا بما روي عن عمر أنهم : لما رجعوا من الغزو- حيث فروا- قالوا : نحن الفرارون ، فقال : بل أنتم العكارون أنا فئة المؤمنين .قال: فقبلنا يده .
قال ابن حجر: قلت: حديث ابن عمر أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود .
قال : وقبّل أبو لبابة وكعب بن مالك وصاحباه يد النبي صلى الله عليه وسلم حين تاب الله عليهم .
وقبّل أبو عبيدة يد عُمر حين قدم- أى بلاد الشام- ، وقبّل زيد بن ثابت يد ابن عباس حين أخد ابن عباس بركابه.
قال ابن بطال : وذكر الترمذي من حديث صفوان بن عسال أنّ يهوديين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات .. الحديث ... وفي آخره فقبّلا يده ورجله ، قال الترمذي حسن صحيح .
قال الحافظ : (11/ 57 ) : ( حديث أبي لبابة أخرجه البيهقي في الدلائل وابن المقري وحديث كعب وصاحبيه أخرجه ابن المقري ، وحديث أبي عبيدة أخرجه سفيان في جامعه وحديث ابن عباس أخرجه الطبري وابن المقري ، وحديث صفوان أخرجه أيضاً النسائي وابن ماجه وصححه الحاكم ) .
وقال أيضاً : " وقد جمع الحافظ أبو بكر بن المقري جزءً في تقبيل اليد سمعناه أورد فيه أحاديث كثيرة وآثاراً ، فمن جيدها حديث الزارع العبدي ، وكان في وفد عبد القيس قال : فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله أخرجه أبو داود ، ومن حديث مزيدة العصري مثله ، ومن حديث أسامة بن شريك قال : قمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده وسنده قوي ، ومن حديث جابر أنّ عمر قام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبل يده "
ومن حديث بريدة في قصة الأعرابي والشجرة فقال يا رسول الله ائذن لي أن أقبل رأسك ورجليك فأذن له ..
وأخرج البخاري في الأدب المفرد من رواية عبد الرحمن بن رزين قال : أخرج لنا سلمة بن الأكوع كفاً له ضخمة كأنها كف بعير فقمنا إليها فقبلناها وعن ثابت أنه قبل يد أنس .
وأخرج أيضاً أنّ علياً قبل يد العباس ورجله وأخرجه ابن المقري .
وأخرج من طريق ابن مالك الأشجعي قال: قلت لابن أبي أوفى ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فناولنيها فقبلتها .
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح (11/ 57 ) : قال النووي :

تقبيل يد الرجل لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه أو صيانته أو نحو ذلك من الأمور الدينية لا يكره بل يستحب فإن كان لغناه أو شوكته أو جاهه عند أهل الدنيا فمكروه شديد الكراهية ، وقال أبو سعيد المتولي : لا يجوز.

فوائد المصافحة وآثارها :
1- مغفرة الذنوب .
عن البراء رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا )) ( صحيح أبي داود
4343، الصحيحة 525) .
قلت : وهذا الحديث فيه فضل التصافح ومغفرة الله- تعالى- للمتصافحين قبل تفرقهما لما فيه من الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يصافح أصحابه ويعانقهم فضلاً عن إظهار حسن النية وسلامة القلب من الضغائن والشحناء .
2- إشاعةُ المحبة بين المتصافحين :
المصافحةُ لها أعظمُ الأثر في إشاعة المحبة بين المتصافحين ، فإذا كان نبيا - عليه السلام- يقول: في الحديث الصحيح من حديث أنس " ... أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم " فإذا كان السلام المجرد سبباً في حصول المحبة فمن باب أولى أن تتحقق المحبة إذا اقترن بالسلام مصافحة بالأيدي, والتحام بالأكف ، وهو أمرٌ مشاهد ملموس لا ينكره أحدٌ .
3- بعثُ الطمأنينة في النفوس .
لا ريب أنّ السلام في أصله اللغوي والشرعي والعرفي هو تعبير عن نبذ الكراهية ، وتجنب البغضاء وإظهار لحسن النوايا ، وسلامة الصدور، ونحن نشاهد كم لإلقاء التحية من الأثر الفاعل في نفوس الغرباء الذين نصادفهم في حياتنا اليومية حيث ينقلب التوجس إلى ارتياح والتردد إلى إقدام والخوف إلى أمان والتجهم إلى ابتسام فكيف يكون الحال حين يقترن بالسلام مصافحة ؟!
لا شك إنّه أحرى وأولى في بناء الطمأنينة وصناعة الوئام .
حُكْمُ مُصافحةِ النساءِ الرجال : [2]
أجمع علماء الأمة سلفاً وخلفاً على تحريم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية عنه وعلى هذه جرى العمل في المذاهب الأربعة المتبعة ودلت النصوص الثابتة على تحريم ذلك ومنها :
-
حديث عائشة قالت : كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقول الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ )) (سورة الممتحنة :10) .
قالت : من أقر بهذا الشرط من المؤمنات فقد أقر بالمحنة , فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أقررن بذلك من قولهن , قال لهن- رسول الله صلى الله عليه وسلم-: انطلقن فقد بايعتكن ، لا والله ما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام . ( صحيح البخاري
11/ 345، صحيح مسلم 13/ 10 )
- حديث أُميمة بنتُ رقيقة قالت : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة نبايعه فقلنا : نبايعك يا رسول الله , على أن لا نشرك بالله شيئاً, ولا نسرق, ولا نزني, ولا نقتل أولادنا, ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا, ولا نعصيك في معروف, فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم : " فيما استطعتن واطقتن " قالت : فقلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا ، هلم نبايعك يا رسول الله فقال : " إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة أو مثل قولي لامرأة واحدة . [ الترمذي
4/151 [ النسائي : 7/149 ] [ ابن ماجه 2/959] [ الموطأ 538 ] [ مسند أحمد 6/ 357 ] [ ابن حبان 10/417 ] وقال : ( الترمذي حسن صحيح ، وقال ابن كثير في تفسيره 4/352: هذا إسناد صحيح تفسير]
- وعند الطبري
[3] بسند صحيح من حديث معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن يطعن في رأس رجل بمخيط من حديد خير له من أن يمسّ امرأة لا تحل له .
- عن عبد الله بن عمرو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصافح النساء في البيعة " ( أحمد
2/213 ) وحسنّه الألباني في الصحيحة 2/ 56 .
- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان "
قال الشنقيطي : قدّمنا أنّ المرأة كلها عورة يجب عليها أن تحتجب وإنما أمر بغض البصر خوف الوقوع في الفتنة ، ولا شك أنّ مسّ البدن للبدن أقوى في إثارة الغرائز، وأقوى داعياً إلى الفتنة من النظر بالعين وكل منصف يعلم ذلك ( الأضواء : 6/ 603) .
قال النووي في ( الأذكار ص 428 ) : ( وقد قال أصحابنا كلُّ من حرم النظر إليه حرم مسّه ، بل المسّ أشد ) .
وقال في الحافظ في الفتح ( 8/ 636 ) : تعليقاً على حديث عائشة في البيعة : " قد بايعتك كلاماً : أي يقول ذلك كلاماً فقط ، لا مصافحة باليد ، كما جرت العادة بمصافحة الرجال "
وقال في الفتح : (11/ 55) : ( ويستثنى من عموم الأمر بالمصافحة: المرأة الأجنبية ، والأمرد الحسن ) .
قال ابن مفلح في الآداب : ( 2/257 ) : ( فتصافح المرأةُ المرأةَ ، والرجلُ الرجلَ.
والعجوزُ والبرزةُ – غير الشابة – فإنه تحرم مصافحتها للرجل ، ذكره في الفصول ، والرعاية .
وقال ابن منصور لأبي عبد الله – أي الإمام أحمد- : تكره مصافحة النساء ؟ قال : أكرهه .
وقال محمد بن عبد الله بن مهران : إنّ أبا عبد الله – يعني أحمد بن حنبل – سُئلَ عن الرجل يصافحُ المرأة : قال : لا وشدّد فيه جداً قلت : فيصافحها بثوبه ؟ قال : لا .
قال ابنُ مفلح : والتحريمُ اختيار الشيخ تقي الدين – يعني ابن تيمية – وعلل بأنّ الملامسة أبلغ من النظر [4] .
وقال في كشف القناع ( 2/ 155) :

" والتحريم مطلقاً اختيار الشيخ تقي الدين "
وقال العلاًمة ابن باز – رحمه الله – في مجلة الجامعة الإسلامية [5] :

( قد عُلمَ بالأدلة الشرعية من الكتاب والسُنّة أنّ المرأة ليس لها أن تصافح أو تُقبل غير محارمها من الرجال سواء أكان ذلك في الأعياد أم عند القدوم من السفر أو لغير ذلك من الأسباب ، لأنّ المرأة عورة وفتنة ، فليس لها أن تمس الرجل الذي ليس محرماً لها سواء أكان ابن عمها أم بعيداً منها وليس لها أن تقبله أو يقبلها ، لا نعلم بين أهل العلم رحمهم الله خلافاً في تحريم هذا الأمر وإنكاره لكونه من أسباب الفتن ومن وسائل ما حرّم الله من الفاحشة والعادات المخالفة للشرع ) .
وقال في الفتاوى (10/133 ) ( لا يجوز للرجل أن يصافح المرأة الأجنبية لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إني لا أصافح النساء ) .
وقالت اللجنة الدائمة
[6] في الفتوى ( 1742) : ( لا يجوز أن يضع رجل يده في السلام في يد امرأة ليس لها بمحرم ولو توّقت بثوبها ) .
وقال الشيخ بكر أبو زيد في الحراسة ص 85 :

" تحريم مسّ الرجل بدن الأجنبية حتى المصافحة للسلام "
وقال الشيخ [7]ابن عثيمين - رحمه الله –

( لا يجوز للمرأة أن تمد يدها إلى رجالٍ ليسوا من محارمها لتصافحهم ولا يجوز للرجل أيضاً أن يمده يده إلى امرأة ليست من محارمه ليصافحها ) .
وقال الشيخ ابن جبرين [8] - حفظه الله –

( المرأة الأجنبية لا يحل لها مصافحة الأجانب ، ولو كانوا أبناء عمها أو أبناء خالتها كما أنه لا يحل لها كشف الوجه وإبداء الزينة ولو كانوا من أقاربها غير المحارم ) .
وقال الشيخ صالح الفوزان [9] :

( لا يجوز للرجل أن يصافح امرأة أجنبية ) .
قال الألباني – رحمه الله – في الصحيحة ( 2/ 55) :

( وجملة القول أنّه لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه صافح امرأة قط حتى ولو في المبايعة ، فضلاً عن المصافحة عند الملاقاة ، فاحتجاج البعض بجوازها بحديث أم عطية الذي ذكرته ، مع أنّ المصافحة لم تذكر فيه ، واعرضه عن الأحاديث الصريحة في تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن المصافحة ، لأمرٌ لا يصدر من مؤمن مخلص ، لا سيما وهناك الوعيد الشديد فيمن يمسّ امرأة لا تحل له ) .
وقال الدكتور سعيد رمضان البوطي في فقه السيرة ص 431 :

( ولا أعلم خلافاً بين العلماء في عدم جواز ملامسة الرجل بشرة امرأة أجنبية )
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي في الأضواء ( 6/602 ) :

( اعلم أنه لا يجوز للرجل الأجنبي أن يصافح امرأة أجنبية منه ، ولا يجوز له أنْ يمس شيءٌ من بدنه شيئاً من بدنها ) .
وقال الشيخ محمد بن علي الصابوني في روائع البيان ( 2/ 264 ) :

( أقول الروايات كلها تشير إلى أنّ البيعة كانت بالكلام ، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صافح النساء في بيعة أو غيرها ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند ما يمتنع عن مصافحة النساء مع أنه المعصوم فإنما هو تعليم للأمة وإرشاد لها لسلوك طريق الاستقامة ، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الطاهر ، والفاضل ، الشريف الذي لا يشك إنسان في نزاهته وطهارته ، وسلامة قلبه لا يصافح النساء ويكتفي بالكلام في مبايعتهن مع أنّ أمر البيعة أمر عظيم الشأن فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة النساء مع أنّ الشهوة فيهم غالبة ، والفتنة غير مأمونة ، والشيطان يجري فيهم مجري الدم ؟! ) .
المفاسد المترتبة على مصافحة النساء للرجال :
* إثارة الشهوة لدى الطرفين غالباً : فإذا كان النظر من بُعْدٍ مثيراً للشهوة ، ومشعلاً للفتنة ، فكيف إذا تلامست الأكف بعضها ببعض فلا ريب والحالة هذه أن تلتهب الأحاسيس وتتدفق المشاعر الساخنة ويحضر الشيطان !
* ذوبان الحياء لدى النساء شيئاً فشيئاً فالمرأة التي لا تمتنع من مصافحة الرجال الأجانب كلما مدّوا إليها أيديهم ستجد نفسها مع الوقت ضفيقة الوجه ، جريئة الإقدام على ما هو أبشع وأفظع من مجرد المصافحة .
* ذبول الغيرة لدى الرجال على نسائهم ، فالزوج أو الولي حين يرى زوجته تصافح الرجال صباح مساء ، وكأنّه أمر مباح فإنّ حجم الغيرة على أهله ومحارمه تأخذ في الانحسار بمرور الوقت حتى يقبل منها ما هو أشد حرمة وأبلغ جرماً – عياذا بالله-
قال العلامة الشنقيطي في ( الأضواء 6 / 603 ) :

" وقد أخبرنا مراراً أنّ بعض الأزواج من العوام يقبل أخت امرأته بوضع الفم على الفم ويُسمّون ذلك التقبيل الحرام بالإجماع سلاماً!! "
* مصافحة المرأة للرجل الأجنبي ، تشجيع للرجل على محادثة المرأة وملاطفتها وربما مداعبتها وممازحتها سيما مع تكرار المصافحة في ميدان العمل أو الدراسة المختلطة الآثمة .
وختاماً :
أسأل الله للجميع علماً نافعاً ،وعملاً صالحاً ، وتوفيقاً دائماً

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين .
--------------------------------------
[1] بواسطة : علي الشريجي وصاحبه ، حاشيتهما على الأذكار للنووي ص 426 .
[2] استفدت في هذا المبحث من بحث الدكتور موسى البسيط عميد كلية الدعوة والعلوم الإسلامية في القدس منشور على الشبكة
[3] قال المنذري : رجال الطبراني ثقات رجال الصحيح ( الترغيب والترهيب 3/ 39) [4] وانظر : غذاء الألباب للسفاريني ( 1/ 325 ) .
[5] مجلة الجامعة الإسلامية عدد (2) شوال 1390 بواسطة أحمد الصويان :

المرأة المسلمة ص 158 .
[6] فتاوى اللجنة الدائمة 17 /30 .
[7] فتاوى نور على الدر – موقع الشيخ على الشبكة .
[8] فتوى رقم 357 موقع الشيخ على الشبكة .
[9] فتوى رقم 16760 موقع الشيخ على الشبكة .

 

الأحد، 4 ديسمبر 2011

حكم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية

حكم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية

الموضوع: حكم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية

مصدرها: قسم الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء المصرية
التاريخ: 01/06/2008

حكم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..
فهذا بحث في حكم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية، وبيان مذاهب العلماء فيه.
تعريف المصافحة:
المصافحة: هي الأخذ باليد. والتصافح مثله([1])، وصافحته مصافحة: أفضيت بيدي إلى يده([2]).
وقال ابن منظور: هي مفاعلة من إلصاق صفح الكف بالكف وإقبال الوجه على الوجه([3]).
وقال الحافظ ابن حجر: المراد بالمصافحة الإفضاء بصفحة اليد إلى صفحة اليد([4]).
تحديد المراد بالمرأة الأجنبية:
المرأة الأجنبية: هي من ليست زوجة ولا مَحْرَمًا. والمَحْرَم: مَنْ يَحْرُم نكاحها على التأبيد, إما بالقرابة, أو الرضاعة، أو المصاهرة([5]).
قال الإمام النووي: "واعلم أن حقيقة المحرم من النساء التي يجوز النظر إليها والخلوة بها والمسافرة بها كل من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها، فقولنا: (على التأبيد) احتراز من أخت المرأة وعمتها وخالتها ونحوهن، وقولنا: (بسبب مباح) احتراز من أم الموطوءة بشبهة وبنتها، فإنهما تحرمان على التأبيد وليستا محرمين؛ لأن وطء الشبهة لا يوصف بالإباحة؛ لأنه ليس بفعل مكلف، وقولنا: (لحرمتها) احتراز من الملاعنة، فإنها محرمة على التأبيد بسبب مباح، وليست محرمًا؛ لأن تحريمها ليس لحرمتها بل عقوبة وتغليظًا، والله أعلم"([6]).
واعلم أن المحرمات على التأبيد من النساء هن اللائي لا يحل الزواج بهن بحال من الأحوال ، وتحريمهن إما بالنسب أو بالرضاع أو بسبب المصاهرة.
فالمحرمات بالنسب: سبع ، وهن: الأمهات - ويدخل فيهن الجدات وإن علون -، ثم البنات - ويدخل فيهن بناتهن وإن سفلن -، ثم الأخوات - سواء كن شقيقات أو لأب، أو لأم-، ثم العمات والخالات وإن علون - سواء كن من جهة الأب أو الأم-، ثم بنات الأخ وبنات الأخت.
والمحرمات من الرضاع: سبع أيضًا كما هو الحال في النسب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب"([7]).
أما المحرمات بسبب المصاهرة: فزوجة الأب، وزوجة الابن، وأم الزوجة - بمجرد العقد على البنت-، وبنت الزوجة - بمجرد الدخول بالأم-.
وما سبق هن المحرمات على التأبيد.
أما المحرمات حرمة مؤقتة فهن: أخت الزوجة، والمطلقة ثلاثًا، والمشغولة بحق زوج آخر بزواج أو عدة، والتي لا تدين بدين سماوي، والخامسة لمن عنده أربع زوجات.
أقوال المذاهب الأربعة في حكم مصافحة الأجنبية:
مذهب الحنفية:
ذهب الحنفية إلى حرمة مصافحة الرجل للمرأة إذا كانت شابة ولو أمنت الفتنة، ما لم تكن هناك ضرورة، لكنهم أجازوا مصافحة العجوز التي لا تشتهى.
ففي تبين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي: "ولا يجوز له أن يمس وجهها, ولا كفيها, وإن أمن الشهوة؛ لوجود المحرم، وانعدام الضرورة والبلوى. وقال عليه الصلاة والسلام: "من مس كف امرأة ليس منها بسبيل وضع على كفه جمر يوم القيامة", وهذا إذا كانت شابة تشتهى، وأما إذا كانت عجوزًا لا تشتهى فلا بأس بمصافحتها ومس يدها؛ لانعدام خوف الفتنة، وقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يدخل على بعض القبائل التي كان مسترضعًا فيهم, وكان يصافح العجائز، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنه استأجر عجوزًا لتمرضه, وكانت تكبس رجليه, وتفلي رأسه"([8]).
مذهب المالكية:
ذهب المالكية إلى تحريم مصافحة المرأة الأجنبيّة سواء كانت بشهوة أو بغيرها، وسواء كانت شابة أو عجوزًا؛ أخذًا بعموم الأدلة المثبتة للتحريم.
ففي الشرح الصغير للشيخ الدردير مع حاشيته للعلامة الصاوي: "(ولا تجوز مصافحة الرجل المرأة)، أي: الأجنبية، (ولو مُتَجالَّة; لأن المباح الرؤية فقط)، وإنما المستحسن المصافحة بين المرأتين لا بين رجل وامرأة أجنبية"([9]).
مذهب الشافعية:
المفهوم من كلام السادة الشافعية عدم جواز مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية إلا بشرطين: أمن الفتنة، ووجود حائل إذا دعت الحاجة.
ففي المنهاج وشرحه للرملي: "ويجوز للرجل دلك فخذ الرجل بشرط حائل وأمن فتنة، وأُخِذ منه حِلُّ مصافحة الأجنبية مع ذينك; وأفهم تخصيصُه الحل معهما بالمصافحة حرمةَ مس غير وجهها وكفيها من وراء حائل ولو مع أمن الفتنة وعدم الشهوة, ووَجْهُه أنه مَظِنَّة لأحدهما كالنظر وحينئذ فيلحق بها الأمرد في ذلك, ويؤيده إطلاقهم حرمة معانقته الشاملة لكونها من وراء حائل"([10]).
وفي حاشيتي الشرواني والعبادي على التحفة عند قول المصنف: (وأخذ منه حل مصافحة الأجنبية مع ذينك): "ينبغي تقييد كل من المأخوذ والمأخوذ منه بالحاجة"([11]).
فمقصد المنع من المصافحة – عند السادة الشافعية - هو حسم أسباب الشهوة الممنوعة وقطع مظانها، وهذان الشرطان المذكوران يحققان هذا المقصد، فمن أهم أسباب حصول الشهوة تلاقي البشرتين بين الرجل والمرأة، والحائل يمنع من هذا التلاقي فيقطع هذا السبب.
وكذلك إن وجد الحائل وخيفت الفتنة بأن يتلذذ من يصافح بيد المصافَح مثلا، فإنه ينبغي حسم هذه المادة أيضًا، فيشترط أمن الفتنة عند المصافحة، ومن هنا جاء اشتراط هذين الشرطين.
مذهب الحنابلة:
ذهب الحنابلة إلى عدم جواز مصافحة المرأة الأجنبية الشابة، أما العجوز فتجوز مصافحتها، وهناك رواية أخرى عن الإمام أحمد بالكراهة مطلقًا.
ففي الإقناع وشرحه للبهوتي: "(ولا تجوز مصافحة المرأة الأجنبية الشابة)؛ لأنها شر من النظر, أما العجوز فللرجل مصافحتها على ما ذكره في الفصول والرعاية، وأطلق في رواية ابن منصور: تكره مصافحة النساء، قال محمد بن عبد الله بن مهران: سئل أبو عبد الله عن الرجل يصافح المرأة قال: لا, وشدد فيه جدًا قلت: فيصافحها بثوبه، قال: لا، قال رجل: فإن كان ذا رحم قال: لا، قلت: ابنته، قال: إذا كانت ابنته فلا بأس، والتحريم مطلقًا اختيار الشيخ تقي الدين، ويتوجه التفصيل بين المحرم وغيره, فأمَّـا الوالد فيجـوز - قاله في الآداب -"([12]).
وما نقلناه عن المذاهب الأربعة نلاحظ منه ما يلي:
أولا: أن جمهورهم -عدا الشافعية- لا يُجوِّز مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية إذا كانا شابين، أما الشافعية فقد أجازوها بشرطين: أمن الفتنة، ووجود حائل إذا دعت الحاجة. ثانيًا: أن جمهورهم – عدا المالكية - يُجوِّز مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية إذا كانت عجوزًا لا تُشتهى.
ثالثًا: هناك رواية عن الإمام أحمد بن حنبل تقول بالكراهة مطلقًا.
أدلة المانعين:
ويستدل للمانعين من المصافحة - قديمًا وحديثًا - بما يلي:
1-
امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن مصافحة النساء حال المبايعة، وفي هذا أحاديث: فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إلى آخر الآية [الممتحنة: 10]. قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات فقد أقر بالمحنة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن، قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلقن فقد بايعتكن). لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه بايعهن بالكلام، والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء إلا بما أمره الله يقول لهن إذا أخذ عليهن: (قد بايعتكن) كلامًا([13]).
قال الحافظ بن حجر: "قوله (قد بايعتك كلامًا) أن يقول ذلك كلامًا فقط لا مصافحة باليد، كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة"([14]).
وقال الإمام النووي: "قولها: (والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام) فيه أن بيعة النساء بالكلام من غير أخذ كف، وفيه أن بيعة الرجال بأخذ الكف مع الكلام، وفيه أن كلام الأجنبية يباح سماعه، وأن صوتها ليس بعورة، وأنه لا يلمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة كتطبيب وفصد"([15]).
وعن أميمة بنت رقيقة أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة يبايعنه فقلن: نبايعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئًا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيما استطعتن وأطقتن"، قالت: فقلت: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أصافح النساء إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة أو مثل قولي لامرأة واحدة"([16]).
وعلق بعض الباحثين المعاصرين على أحاديث البيعة هذه بقوله: وهذه الأحاديث تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء في البيعة وهي نص صريح في ذلك، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء في البيعة فمن باب أولى أنه لم يصافح النساء في غير البيعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم مع عصمته ترك مصافحة النساء ، فعلينا أن نترك ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أسوتنا وقدوتنا ([17]).

2-
ما رواه الطبراني عن معقل بن يسار يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له"، وفي لفظ آخر عنده: "لأن يطعن في رأس رجل بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له([18]).
قال المنذري: رواه الطبراني والبيهقي، ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح([19])، وقال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح([20]).
3-
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه"([21]).
يقول الإمام النووي: "معنى الحديث: أن ابن آدم قُدِّر عليه نصيب من الزنى، فمنهم من يكون زناه حقيقيًّا بإدخال الفرج في الفرج الحرام، ومنهم من يكون زناه مجازًا بالنظر الحرام، أو الاستماع إلى الزنى وما يتعلق بتحصيله، أو بالمس باليد بأن يمس أجنبية بيده أو يُقَبِّلها، أو بالمشي بالرجل إلى الزنى، أو النظر، أو اللمس، أو الحديث الحرام مع أجنبية، ونحو ذلك، أو بالفكر بالقلب، فكل هذه أنواع من الزنى المجازي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه معناه: أنه قد يحقق الزنى بالفرج وقد لا يحققه بأن لا يولج الفرج في الفرج وإن قارب ذلك، والله أعلم.أهـ
ثم نقل قول ابن عباس في رواية أخرى في الصحيحين: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة – أي بما في الحديث من النظر واللمس ونحوهما، وبين تفسيره للمم بذلك فقال: "فمعناه: تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ}[النجم: 32]، ومعنى الآية والله أعلم: الذين يجتنبون المعاصي غير اللمم يغفر لهم اللمم، كما في قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}[النساء: 31]، فمعنى الآيتين: أن اجتناب الكبائر يسقط الصغائر، وهي: اللمم، وفسره ابن عباس بما في هذا الحديث من النظر واللمس ونحوهما، وهو كما قال، هذا هو الصحيح في تفسير اللمم"([22]).
4-
أن مصافحة الأجنبية ذريعة إلى الافتتان بها: فمن غير المقبول أن يُحَرَّم الشارع شيئًا، ثم يجعل الأسباب المؤدية إليه والمغرية به مباحة، ولا يرتاب أحد سَوِيّ في أن لمس الرجل شيئًا من بدن الأجنبية كما هو الحال في المصافحة ذريعة إلى الافتتان بها، وبما أن المصافحة كذلك فإنها تَحْرُم؛ لأنها مقدمة ووسيلة للافتتان بالمرأة.
5-
أن الإسلام قد حرَّم النظر إلى الأجنبية بغير سبب مشروع، فمن باب أولى اللمس؛ لأن النظر أقل من اللمس، واللمس أعظم أثرًا في النفس من مجرد النظر، فاللمس فيه بعث للشهوة وتحريكها فوق ما في النظر.
قال الإمام النووي: " قال أصحابنا: كل من حرم النظر إليه حرم مسه، بل المس أشد، فإنه يحل النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوجها، وفي حال البيع والشراء والأخذ والعطاء ونحو ذلك، ولا يجوز مسها في شيء من ذلك"([23]).
إذن فقياس منع اللمس على منع النظر من باب قياس الأولى وقياس الأولى هو: ما كان الفرع فيه أولى بالحكم من الأصل؛ لقوة العلة فيه، مثل: قياس الضرب على التأفيف، بجامع الإيذاء، فإن الضرب أولى بالتحريم من التأفيف؛ لشدة الإيذاء ([24])، واللمس أبلغ من النظر قطعًا، يقول الإمام الرملي الشافعي في شرحه للمنهاج: "(ومتى حرم النظر حرم المس); لأنه أبلغ في إثارة الشهوة إذ لو أنزل به أفطر, بخلاف ما لو نظر فأنزل فإنه لا يفطر"([25]).
رأي الدكتور القرضاوي:
ذهب العلامة الدكتور يوسف القرضاوي إلى القول بأنه ليس هناك دليل مقنع منصوص عليه يدل على تحريم المصافحة إذا لم تكن هناك شهوة، وأن أقوى ما يُستدل به هنا، هو سد الذريعة إلى الفتنة، وهذا مقبول من غير شك عند تحرك الشهوة، أو خوف الفتنة بوجود أماراتها، ولكن عند الأمن من ذلك وهذا يتحقق في أحيان كثيرة ما وجه التحريم؟ ([26])
وناقش بعض ما يستدل به على المنع كالاستدلال بترك النبي صلى الله عليه وسلم للمصافحة حال البيعة على تركه لها في جميع أحواله، ومن ثم منعها مطلقًا، بأن المقرر أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لأمر من الأمور لا يدل بالضرورة على تحريمه.. فقد يتركه لأنه حرام، وقد يتركه لأنه مكروه، وقد يتركه لأنه خلاف الأولى، وقد يتركه لمجرد أنه لا يميل إليه، كتركه أكل الضب مع أنه مباح.
ويقوى كلام الشيخ القرضاوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال:

 "إني لا أقبل هدية مشرك"([27]). لكنه قبلها من المشرك في موضع آخر، فقد قبلها من المقوقس ملك القبط حيث أهدى إليه جاريتين منهما مارية القبطية أم ابنه إبراهيم بالإضافة إلى بغلة([28])، ومن ثم فإنه تصريحه صلى الله عليه وسلم بعدم قبول هدية المشرك محمول على حالة معينة؛ بدليل وردود المعارض، فكذلك ما نحن بصدده من قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أصافح النساء".
فمجرد الترك لا يقتضي حرمة بمفرده، ولابد معه من دليل آخر، وليُراجع في هذا رسالة العلامة الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري "حسن التفهم والدرك لمسألة الترك" ففيها تفصيل الكلام عن هذا الأمر.
وقال أيضًا: إن ترك مصافحته صلى الله عليه وسلم للنساء في المبايعة ليست موضع اتفاق، فقد جاء عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها ما يدل على المصافحة في البيعة، خلافًا لما صح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حيث أنكرت ذلك وأقسمت على نفيه.
فقد روي ابن حبان، والبزار، من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن جدته أم عطية في قصة المبايعة، قالت: فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: "اللهم اشهد"([29]).
وكذا في صحيح البخاري عن أم عطية رضي الله عنها قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ علينا: {أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا}. ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها فقالت: أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها، فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فانطلقت ورجعت فبايعها([30])، فإن جملة: "فقبضت امرأة يدها" تُشعر بأنهن كن يبايعنه بأيديهن.
قال الحافظ في الفتح: ويمكن الجواب عن الأول: بأن مد الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقـوع المبايعة وإن لم تقع مصافحة.. وعـن الثاني: بأن المراد بقبض اليد: التأخـر عن القبول.. أو كانت المبايعة تقع بحائل، فقد روى أبو داود في المراسيل عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بايع النساء أتى ببرد قطري فوضعه على يده، وقال: (لا أصافح النساء) وفي مغازي ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم كان يغمس يده في إناء وتغمس المرأة يدها معه، وقال: ويحتمل التعدد([31]).
ومعنى ذلك: أن المبايعة وقعت أكثر من مرة، منها ما لم يمس فيها يد امرأة قط لا بحائل ولا بغيره إنما يبايع بالكلام فقط، وهو ما أخبرت به عائشة.. ومنها ما صافح فيه النساء بحائل، وهو ما رواه الشعبي.. ومنها: الصورة التي ذكرها ابن إسحاق من الغمس في الإناء، والصورة التي يدل عليها كلام أم عطية من المصافحة المباشرة، خاصة إذا حمل اللفظ على الحقيقة، ولم يحمل على أنه مجاز عن تأخر القبول، ومما يعضد هذا رواية الإمام أحمد في المسند، وفيها زيادة، فعن أم عطية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على النساء فيما أخذ أن لا ينحن، فقالت امرأة: يا رسول الله إن امرأة أسعدتني أفلا أسعدها، فقبضت يدها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فلم يبايعها([32])، ومما يؤيد هذا ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن هند بنت عتبة قالت: يا نبي الله! بايعني؟ فنظر إلى يدها فقال: "لا أبايعك حتى تغيري كفيك كأنهما كفا سبع"([33])، ويعضده أيضًا ما ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره عن ابن أبي حاتم أن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبايعه، فنظر إلى يدها فقال: "اذهبي فغيري يدك"، فذهبت فغيرتها بحناء ثم جاءت فقال: "أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئًا"، فبايعته وفي يدها سواران من ذهب، فقالت: ما تقول في هذين السوراين؟ فقال: "جزئين من نار جهنم"([34]).
فالإرشاد إلى تغيير اليد بالحناء قد يومئ إلى احتمالية المصافحة.
ومما يرجح احتمال التعدد: أن عائشة تتحدث عن بيعة المؤمنات المهاجرات بعد صلح الحديبية، أما أم عطية فتتحدث فيما يظهر عما هو أعم من ذلك وأشمل لبيعة النساء المؤمنات بصفة عامة، ومنهن أنصاريات كأم عطية راوية الحديث.. ولهذا ترجم البخاري لحديث عائشة تحت عنوان باب: (إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات)، ولحديث أم عطية باب: (إذا جاءك المؤمنات يبايعنك).
واُضيف فأقول: إن المدقق في هذه الأحاديث (أحاديث البيعة: كحديثي عائشة وأم عطية) يرى أنها مجرد وصف للواقع، فيُسْتَشَف منها أنها لا تصلح أن تكون مستندًا قويًّا قطعيًّا لمحرمي مصافحة النساء؛ لكون أم المؤمنين تنفي المصافحة ولا تجرمها، فامتناعُهُ صلى الله عليه وسلم المطلقُ عن مصافحة النساء، على فرض التسليم بذلك، لا يدل على التحريم. كما أن أم المؤمنين لم تصف انتهاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن الفعل بوصف يضفي عليه صفة الانتهاء عن المحرم، أي أن الرواية لم ترد فيها قرينة مقال (كقولها حاشا رسول الله أو معاذ الله أن يفعل كذا) أو قرينة حال (كغضبٍ من جانب أم المؤمنين) تدل أو توحي على الأقل بحرمة الفعل الذي انتهى عنه نبينا المعصوم صلى الله عليه وسلم. وإنما كان روايتها منصبة على نفي أمر حسب علمها، فنفيها رضي الله عنها لا يدل على ثبوت الحرمة فضلا أن يدل على عدم الوقوع، بل المحتمل وقوع المصافحة منه صلى الله عليه وسلم، كما مر معنا في حديث أم عطية عند البخاري وأحمد، فكلٌّ حدَّث بما رأى أو علم، فأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها نفت مثلا تبول النبي صلى الله عليه وسلم قائماً – كما في السنن والمسند - فقالت: من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائمًا فلا تصدقوه؛ ما كان يبول إلا قاعدًا([35]). لكن جاء في الصحيح وغيره عن حذيفة رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائمًا ثم دعا بماء فجئته بماء فتوضأ([36])، فالواقع أن كلا من السيدة عائشة وحذيفة أخبر بما رأى وعلم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تعارض بين الحديثين.
والمقصود من نقل هذا كله: أن ما اعتمد عليه الكثيرون في تحريم المصافحة من ترك النبي صلى الله عليه وسلم لها في بيعة النساء، ليس قطعي الدلالة على الدعوى، ومن ثم فهو ليس موضع اتفاق، بل ساغ فيه الخلاف الذي ذكرناه.
-
أما حديث: "لأن يطعن في رأس أحدكم بِمخْيَط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له". فقال الشيخ القرضاوي: ومما استُدل به على تحريم مصافحة المرأة ما أخرجه الطبراني والبيهقي عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  "لأن يطعن في رأس أحدكم بِمخْيَط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له".
والمِخْيَط: ما يُخَاطُ به كالإبرة ونحوها([37]).
ويلاحظ على الاستدلال بهذا الحديث ما يلي:
1-
أن أئمة الحديث لم يصرحوا بصحته، واكتفى مثل المنذري أو الهيثمي أن يقول: رجاله ثقات أو رجال الصحيح.. وهذه الكلمة وحدها لا تكفي لإثبات صحة الحديث لاحتمال أن يكون فيه انقطاع، أو علَّة خفية، ولهذا لم يخرجه أحد من أصحاب الدواوين المشهورة، كما لم يستدل به أحد من الفقهاء في الأزمنة الأولى على تحريم المصافحة ونحوه.
2-
على فرض تسليمنا بصحة الحديث، وإمكان أخذ التحريم من مثله، نجد أن دلالة الحديث على الحكم المستدل عليه غير واضحة؛ فكلمة "يمس امرأة لا تحل له" لا تعني مجرد لمس البشرة للبشرة، بدون شهوة، كما يحدث في المصافحة العادية.. بل كلمة "المس" حسب استعمالها في النصوص الشرعية من القرآن والسنة تعني أحد أمرين:-
(1)
أنها كناية عن الصلة الجنسية "الجماع" كما جاء ذلك عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}[النساء :43] أنه قال: اللمس والملامسة والمس في القرآن كناية عن الجماع([38]).. واستقراء الآيات التي جاء فيها المس يدل على ذلك بجلاء، كقوله تعـالى على لسان مريم:

{أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}[آل عمران: 47]. وقوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ}[البقرة: 237].
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدنو من نسائه من غير مسيس([39]).
(2)
أنها تعني ما دون الجماع من القبلة والعناق والمباشرة ونحو ذلك مما هو مقدمات الجماع، وهذا ما جاء عن بعض السلف في تفسير الملامسة: قال الحاكم في المستدرك: "قد اتفق البخاري ومسلم على إخراج أحاديث متفرقة في المسندين الصحيحين يستدل بها على أن اللمس ما دون الجماع.
-
منها: حديث أبي هريرة: "فاليد زناها اللمس".
-
وحديث ابن عباس: "لعلك مسست".
-
وحديث ابن مسعود: "وأقم الصلاة طرفي النهار..." (يشير إلى ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن مسعود، وفي بعض رواياته: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أنه أصاب من امرأة، إما قبلة أو مسًّا بيده، أو شيئًا. كأنه يسأل عن كفارتها، فأنزل الله عز وجل.. يعني آية:

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)[هود: 114].

 قال: وقد بقى عليهما أحاديث صحيحة في التفسير وغيره..منها:-
-
عن عائشة قالت: "ما كان يوم أو قَلَّ يوم إلا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا جميعًا - تعني نساءه - فيقبل ويلمس ما دون الوقاع، فإذا جاء إلى التي هي يومها ثبت عندها"([40]).
-
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه في معنى قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}[النساء: 43] قال: اللمس مادون الجماع، وقال: القبلة من اللمس، وفيها الوضوء([41]).